مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 04/05/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: غزوة الخندق


غزوة الخندق
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 4/5/2018
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ( ويقول سبحانه في وصف غزوة الأحزاب: )إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ( وقال سبحانه:) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (
أيُّها المسلون؛ ذكرنا في أسبوع مضى أن بني النضير من يهود المدينة المنورة نقضوا الوثيقة التي بينهم وبين النبي r وخانوا العهد وحاولوا الغدر به وقتله مع ثلة من أصحابه، فطردهم النبي r كما ذكرنا من المدينة المنورة، ثم إن زعماء بني النضير وجهوا إلى قريش المشركين يُألبونهم على حرب النبي r ويلتزمون بالوقوف معهم، ومما جرى بينهم وبين المشركين أن المشركين سألوهم: هل نحن أهدى سبيلاً أم محمد؟ فقالوا: بل أنتم أهدى سبيلاً، نفاق ما بعده نفاق، وكذب ودجل ما بعده كذب ودجل، كانوا يبشرون ببعثة النبي r، وهم أهل كتاب عندهم علامات النبي r وصفاته، ولكن حقدهم الأعمى قذف بهم إلى أن يقروا بالوثنية في مقابل الحق الذي بعث به النبي r، نعم، واستجابت قريش لدعوة اليهود لمقاتلة النبي r، وقد وعدهم بنو النضير أن يقفوا إلى جانبهم، ثم توجه زعماء بني النضير إلى قبائل غطفان وبني فزارة وبني مرة فدعوهم للمشاركة في حلف قذر لمقاتلة النبي r مع قريش، وبذلك شكلوا تحالفاً ضد الإسلام، ضد النبي r وأصحابه، وبتحريضٍ يهودي قام ذلك الحلف وسمي تحالفهم بالأحزاب، وبلغ النبي r ذلك فأخبر أصحابه واستشارهم في كيفية التصدي لهذا العدوان وقد جمعوا الكثيرين -بلغ عدد ما يتجاوز عشرة آلاف مقاتل- فأشار عليهم سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق لحماية المدينة المنورة التي كانت محصنة من جهتين بالحرتين، ومن جهة سلع بالخندق الذي حفر، ومن جهة الخلف ببني قريظة الذين كانوا لا يزالون على العهد، أُعجب النبي r بفكرة سلمان ودعاهم النبي r للمباشرة بحفر الخندق، فباشروا وتواصل عملهم ليل نهار، وكان النبي r يتقدمهم في العمل، حتى أنهكه الجوع فربط الحجر على بطنه وغطى التراب بطنه الشريف، واعترضت بعض الصحابة صخرة فقالوا للنبي r: هنا صخرة لم نستطع أن نفتتها، فنزل النبي r وضرب عليها بمعوله فصارت رمالاً، لم يستطيعوا معالجتها فتفتت على يد النبي r، مرت ثلاثة أيام وهم يواصلون الليل والنهار لا يتناولون من الطعام ما يقوتهم ليستطيعوا حفر الخندق قبل وصول جحافل المشركين، عندما رأى جابر بن عبد الله رضي الله عنه ما أصاب النبي r من التعب والجوع استأذن النبي r أن يعود إلى بيته قليلاً فأذن له، فقال لزوجته: ما عندك من طعام لقد رأيت بالنبي r حالاً لم أطق صبراً عليه، قالت: ما عندنا إلا قليل من شعير وعناق –يعني شاة صغيرة- فقال خير، فذبح العناق وأعد طحين الشعير ومضى إلى النبي r وهمس في أذنه وقال: طُعيم لي، فلو أتيت أنت وبعض أصحابك تتناولون الغداء، فقال له النبي r: ماذا أعدت؟ فذكر له، قال: خير كثير، فوقف النبي r على الصحابة كلهم وقال لهم: إنَّ جابراً قد أعدَّ لكم سوراً – أي: وليمة، طعاماً- فحيَّ هلا بكم، ليس عشرة ولا عشرين ولا مئة ولا ألف، فارتبك سيدنا جابر وعاد إلى زوجته وقال لها: قلت للنبي r ما قلت، قالت: أما أخبرته بما أعدت؟ قال: نعم، قالت: هو والله أعلم، الله سبحانه وتعالى يدبر الأمر وهو رسول الله، فجاء الصحابة فوجاً بعد فوج والنبي r يغرف لهم من الإناء يعطي الجماعة ثم الأخرى ثم الأخرى حتى أكل الناس جميعاً، وقال: لقد اشتد بالناس الحال فأطعموا – أي وزعوا على البيوت أيضاً- نعم، استمروا حتى أنجزوا الخندق مع ظهور طلائع الأحزاب أمام أعينهم :) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا(، بنو قريظة كانوا على العهد فأتى إليهم زعماء بني النضير وسولوا لهم الخيانة والغدر في أخطر مرحلة من حياة النبي r وأصحابه، فما كان من أولئك المجرمين الخونة إلا انضمامهم إلى التحالف إلى الأحزاب )إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ(، اشتد على المسلمين الكرب وضاقت بهم الحال وبلغت القلوب الحناجر واستغل المنافقون تلك المرحلة الخطرة فصاروا يشككون بالنبي r )وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا(، خيانة في الداخل وخيانة في الخارج، في تلك اللحظات الخطيرة أتى أحد المشركين إلى النبي واسمه نعيم بن مسعود الأشجعي وأعلن إسلامه وقال له مرني بما شئت – طبعاً الناس لا تعرف أنه آمن- قال: إنما أنت واحد ولكن خَذِّل عنا ما استطعت، فاتخذ من الحيلة وسيلة لتفتيت جبهة الأحزاب، فمضى إلى يهود بني قريظة وقال لهم: بماذا ورطتم أنفسكم، هل عندكم ضمانات ألا يرحل الأحزاب ويصطلحوا مع النبي r؟ وذهب إلى المشركين وقال: إن بني قريظة قد ندموا على الخيانة، وسيرسلون إليكم طلب الضمانات ليقدموها إلى النبي r، استعمل الخدعة وسيلة للتشكيك في صف جبهة المشركين جبهة الأحزاب جبهة التحالف ضد النبي r، بدأت حالة عدم الثقة في صفوفهم، النبي r دعا حذيفة بن اليمان وقال له: تعالى وامضي إلى معسكر المشركين فانظر ما الله فاعل بهم، ولا تُذَعِّرهم علي – أي لا تمس أحد منهم بسوء- مضى وكان يشعر بدفء وراحة وطمأنينة، وما أن توسط صفوف المشركين؛ حتى رأى العاصفة الهوجاء تثور على معسكر الشرك فتقتلع خيامهم وتكفأ قدورهم وتطفئ نيرانهم، وأصابتهم حالة من الذعر بسبب انعدام الثقة بينهم، فما كان من أبي سفيان قائد المشركين إلا أن قال: إني امرئ مرتحل فلا داعي للبقاء، رأيتم ما فعل بنو قريظة وما أرى أن للبقاء مسوغاً، ومضى منهزماً إلى مكة وانقشعت الغمامة وانحسرت الساحة عن هزيمة قال: )وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا( بفضله ومنه وكرمه بجند الله بريح عصفت بهم فجعلتهم يرتحلون،
أيها المسلمون هذه الصفحة من سيرة النبي r فيها مشاهد كثيرة تستحق الوقوف عندها ولن يتسع المقام لبيانها جميعاً سأقف عند بعضها اليوم ولعلنا نتابع في جمعة قادمة، الأمر الأول: الكيد الصهيوني لأمتنا منذ اليوم الأول الذي يصافح اليهود يصافح من لا يؤمَن جانبه، والذي يثق بهم يثق بالذئب في زريبة الغنم، النبي r كان يقظاً وحذراً، ولم يطمئن لليهود بل تعامل معهم على أساس أننا بمقدار ما تكونون أوفياء، رسم اليهود المكائد، وحاولوا إثارة الفتن في صفوف المسلمين، حاولوا إثارة الأوس على الخزرج وإثارة الأنصار على المهاجرين، حاولوا بث حالةٍ من عدم الثقة في صفوف المسلمين ولكنَّ المسلمين كانوا متمتعين بوعي ومناعة، وها هي ذي مكيدة بعد الخيانة يرسمها زعماء بني النضير ضد الدولة الإسلامية وضد النبي r فينشيئون تحالفاً مشبوهاً بل معادياً ضد الدولة الإسلامية وهذه قصة متكررة في تاريخهم وليست هي الحالة الوحيدة؛ بل تكرر هذا الأمر منهم، والمتأمل في تاريخنا القديم والمعاصر يرى دور اليهود في إثارة الفتة في صفوف الأمة ضد الإسلام وضد المسلمين، المشهد الآخر: هو مشهد استشارة النبي r الخبرة العسكرية التي نستفيد منها أياً كان مصدرها مادمنا نثق بها فإنها مقبولة، تقدم سلمان الفارسي بذلك الاقتراح بحفر الخندق فرحب الصحابة والنبي r باقتراحه وباشروا بتنفيذ العمل مباشرة، الأمر الآخر: )وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ( ، النبي r أخبرهم هل جاءه الخبر عن طريق وسائل الإعلام أم عن طريق وسائل الاتصال وشبكات التواصل؟! جاءه الخبر عن ربه عزَّ وجلَّ أنَّ المشركين قد تحالفوا لقتاله بخطة يهودية، طبعاً الصحابة الكرام بنوا على ما قاله النبي r موقفاً وجهداً وعملاً وبدأوا يواصلون الليل والنهار في حفر خندقٍ لخبر أخبرهم به النبي r ، فلما رأوا مصداق ما أخبر به النبي r قال: :) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا( اليوم عندما نقرأ: «ستداعى الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها» فنرى تكالب قوى الطغيان وتحالفها علينا نرى مصداق ما قاله النبي r في الأحداث التي تحيط بأمتنا اليوم، مخطط لتفتيت الأمة وتمزيقها مخطط لاقتسام هذه الأمة في مناطق نفوذ لصالح تلك الدول الغاشمة المجرمة، فريق من الناس مندس فيما بيننا هم المنافقون، هؤلاء شأنهم التخذيل والتشكيك والتهرب من تحمل المسؤوليات والخيانة، خانوا رسول الله r وقالوا لبني النضير سنقف إلى جانبكم وندافع عنكم ولكنهم لم ينفذوا ذلك بل جبنوا ولن يستطيعوا، ودائماً المنافق جبان، في معركة الأحزاب كان لهم دور خسيس ودنيء في تخذيل الصف وبث معاني الشك والريبة في نفوس المسلمين، إلا أن المسلمين كانوا راسخي الإيمان، أقوياء في يقينهم وثقتهم بالله ورسوله، نعم، الخطر كان شديد وأشد ساعات الخطر عندما وصل إلى المسلمين خبر خيانة بني قريظة التي جعلت من الخندق وكأنه لم يحفر، خُرقت المدينة المنورة هذا الخرق الخطير، )وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (، أجل هذا هو التخذيل والتشكيك والتهرب من تحمل المسؤوليات، أما مشهد سيدنا جابر ووليمته ففيه معاني، الأمر الأول طعام قليل كفى جيشاً بكامل! إنها دفعة معنوية قوة معنوية تزيد من ثقة المسلمين بربهم، ولله خرق العوائد، جعل الطعام القليل يكفي الكثير ويجعل القلة القليلة من المسلمين تنتصر على الكثرة، وجعل الأمة الإسلامية مع تكالب البغي والعدوان عليها تستطيع أن تتجاوز ذلك التحالف بالنصر بإذن الله تعالى، إنها حالة من توطيد يقين المسلمين بربهم هذه واحدة، والمعنى الآخر: هل تتصورن أنَّ النبي الكريم r الذي كان مع أصحابه يتضورون جوعاً ويقتسمون مهمة حفر الخندق أن يستأثر بنفسه وبثلة من أصحابه بالطعام ويترك أصحابه جياعا؟ ماكان ليفعل ذلك، لذلك قال نقتسم الصعوبة والمشقة ونقتسم النعمة والمنحة، شركاء في المحنة وشركاء في المنحة، فكان في هذه الوليمة ما يقوي ثقتهم بالله وما يجعل قلوب الصحابة الكرام تثق بأن النبي r لا يمكن أن يؤثر نفسه عليهم.
هناك مشاهد جديرة بأن نتوقف عندها لكنا يضيق الوقت بنا عن أن نتابعها، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.


تشغيل

صوتي