مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/07/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: فتح مكة


فتح مكة
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 6/7/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( ووصف المؤمنين فقال: )وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا( وقال سبحانه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ( وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب يوم فتح مكة فكبَّر ثلاثا فقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبد وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: ألا كل مأثرة من مآثر الجاهلية تذكر أو تُدَّعى من دم أو مال تحت قدمي إلا ما كان من سقاية الحجاج وسدانة البيت»، ثم قال لصناديد الشرك الذين اضطهدوه وحاربوه طيلة إحدى عشرين سنة: «ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
أيُّها المسلمون؛ ذكرنا أنَّ صلح الحديبية تضمن فيما تضمن وقف القتال بين المسلمين وقريش لمدة عشرة سنوات بشروط، منها أنَّ مَن دخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فله ذلك، وأنَّ من دخل في عهد قريش أي: في حلف رسول الله وحلف قريش فله ذلك، فدخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في حلف قريش، لم يصبر المشركون على التزامهم بالمعاهدة والصلح أكثر من سنتين، فنقضت العهد وخانت الاتفاقية وأعانت بني بكر بحشد من زعمائها، فغدروا بخزاعة على حين غرة، وقتلوا منهم نحو عشرين، فشكى بنو خزاعة للنبي صلى الله عليه وسلم نقض قريش للعهد فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن أنه سينتصر لهم، فأدركت قريش فداحة خطئها وندمت، وأرسلت أبا سفيان بدعوى أنه يريد تجديد الاتفاق والهدنة وتمديدها، فلم يرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء، فأتى أبا بكر يستعين به على ذلك فأعرض عنه أبو بكر، فأتى عمر رضي الله عنه لكي يشفع له في ذلك، قال له: (أتريد مني أن أشفع لك بذلك عند رسول الله، والله لو لم أجد إلا الذر لأقاتلكم به لقاتلتكم) وكان يتكلم مع عمر وليس مع أي إنسان آخر، فعاد إلى مكة خائباً. وجهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً، لكن سعيه في تجهيز ذلك الجيش كان محاطاً بدرجة عالية من التكتم والسرية، وهذا شأن الأعمال العسكرية أن تحاط بتكتم وسرية، ولكن معنىً آخر أبعد كان في حرص النبي صلى الله عليه وسلم على سرية توجهه بذلك الجيش وهو أن يفاجئ المشركين بذلك الجيش فيقلعوا عن القتال لئلَّا يؤدي استعدادهم إلى سفك مزيد من الدماء، كان حرصه إذاً لحقن الدماء، وللمحافظة على حرمة مكة المكرمة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مع أن مكة لا تُؤوي الخونة وناقضي العهود.
رجل من المسلمين لم يكن ينتمي إلى قبيلة من القبائل، فأرسل رسالة سراً إلى المشركين، يخبرهم فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم متجه إليهم، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عن طريق الوحي، وكان قد أرسل برسالة مع امرأة فأرسل علياً رضي الله عنه والزبير والمقداد لكي يستردوا ذلك الكتاب، وحدد لهم النبي صلى الله عليه وسلم منطقة اسمها روضة خاخ، وهناك وجدوا المرأة فاستردوا منها ولو بالشدة الكتاب، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل، وهو حاطب بن أبي بلتعة، فسأله عن ذلك، أنت تعلم أننا أحطنا ونحيط تحركنا بكل السرية والكتمان، فاعتذر وقال: (والله ما فعلت ذلك نفاقاً ولا تردداً في إسلامي، ولكن ليس لي أحدٌ، فأردت أن تكون لي صنيعة عند قريش) وفي شأنه نزل قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ( هنا قال عمر: (مرني يا رسول الله فلأضرب عنقه) قال له: «لا»، هذا ممن كان قد صدق مع الله تعالى يوم تطلب منه الأمر الصدق، فكان في عداد أهل بدر، فكان ذلك شافعاً له، إلا أن موقفه بلا شك كان موقفاً خطيراً وخطأً فادحاً ومع ذلك لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن يكَفَّر أو يستباح دمه.
توجه النبي صلى الله عليه وسلم نحو مكة في العاشر من شهر رمضان في السنة الثامنة للهجرة، وأرادت قريش أن تستطلع الخبر، فأرسلت أبا سفيان وحكيم بن سفيان ورجلاً آخر كان قد شارك مع المفاوضين للنبي صلى الله عليه وسلم هو بديل بن ورقاء، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً استطلاعاته وأمنه الخاص لينظر إلى تحركات قريش، فألقوا القبض على الثلاثة وأُتي بهم، فأسلموا وأسلم أبو سفيان بعد جدل، ولكن أبا سفيان احتُجز لهدفين، الهدف الأول: هو أن يرى أن قريشاً ومَن وراءها لن يستطيعوا مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم وجيشه الذي جرد عشرة آلاف مقاتل لأول مرة بمثل هذه الكثافة العددية، على أنه لم يكن يبالي بالعدد ولا بالعدة، إنما يبالي بصدق التوكل على الله والاعتماد عليه، إلا أن المشركين لا يفهمون إلا بالعدد والعدة. والأمر الآخر: لئلَّا يذهب إلى قريش فتسوّل له نفسه أن يُعد العدة للمواجهة، وعندئذ ستكون النتيجة سفك دماء كثيرة، بل أراه الأمر حتى إذا كان المسلمون على أبواب مكة ومداخلها أرسله لمكة، وقال له: «قل لأهل مكة: من دخل داره فأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن -وأضاف لذلك لكي يعطيه مكانته؛ فهو زعيم قريش- ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، كان ذلك بمثابة إعلان للإستسلام، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم جيشه أن لا يبادئوا أحداً بقتال، إلا إن بادؤوهم واجهوا العدوان بالعدوان، فما كان ذلك إلا من قلة من المشركين، أدى ذلك إلى مقتل عدد منهم، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة منتصراً بعد ثمان سنوات من خروجه منها طريداً مطارداً ملاحقاً يختبئ في الغار ثلاثة أيام وتلاحقه قريش، لكنه لم يكن منهزماً، لأن العقيدة التي كانت في قلبه كانت هي مفتاح النصر ولأن يقينه بالله كان إشارة إلى أن الحق الذي حُصِّن بالعقيدة لن يضيع.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لم يدخلها رافعاً هامته مشْمَخِرّاً ولم تأخذه نشوة النصر؛ وإنما أخذته حالة من تعظيم الله والإقرار بفضله ونصره وتأييده فكان ينتشي بترداد سورة الفتح )إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا( هو جلَّ شأنه الذي نصر، وهو الذي أيد، وهو الذي فتح لهم مكة وأعطاهم مفاتيح النصر وزمام الحكم، حتى إذا وصل إلى الكعبة فطهّر ما حول الكعبة من تلك الترهات من الأوثان والأصنام، وهو يقول )وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(، ثم اجتمع إليه صناديد الشرك وكبار المشركين وأهل مكة، فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم نظرة المشفق عليهم لا الحاقد عليهم، فقال لهم بعد أكثر من عشرين عاما من الاضطهاد والإساءة والقهر ومحاولات القتل، قال لهم: «ما تظنون أني فاعل بكم؟» فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» أنهى إحدى وعشرين سنة من الإساءات والظلم والقهر والقمع والاضطهاد بكلمة واحدة، لأن الإسلام جاء رحمة للعالمين، رحمة لمن يستحق الرحمة، ولكن من سولت له نفسه الغدر والخيانة فإن الإسلام لن يتساهل معه ولن يتوانى في معاقبته. نعم دخل الكعبة المشرفة وأزال منها الخرافات والترهات، وطهرها من بقايا الشرك، ثم أعاد مفاتيح الكعبة إلى عثمان بن طلحة لأنها كانت بيده، وقال: يا بني شيبة؛ خذوها تالدة خالدة إلى يوم القيامة لا ينتزعها منكم إلا ظالم، ولا تزال إلى اليوم بيد بني شيبة.
تستوقفنا أمام هذه الصفحة مشاهد ما ينبغي أن نمر عليها دون أن نأخذ منها العبرة، العدو قد يوقع معنا على السلام والأمن، وعلى المسلمين الوفاء بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم. ولكن العدو قلما يكون وفياً. فإذا ما نقض العهد فإن الأمة تكون في حِلّ في مواجهة الغدر ونقض العهد في أن تتخذ الإجراء الذي يحقق لها مصلحتها وقوتها وسلامتها. الأمر الثاني: أن الإسلام بمقدار حزمه في مواجهة من ينقض العهد حريصٌ على حقن الدماء، حريص على تحقيق النصر بأقل ما يمكن من الضحايا، لأن هناك من يقود الفتنة وهناك من يُقاد بالفتنة، أما من يقود الفتنة فإنه سنتصدى له وينبغي أن ينال جزاءه، إلا إن تاب قبل أن يصل إلى أيدينا هكذا قال ربنا سبحانه وتعالى: )إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ( من تاب قبل أن يصل إلى قبضة السلطان فإنه قد يغتفر ذنبه، أما الرعاع فإنهم في الحقيقة ضحايا؛ ضحايا الغدر ضحايا الإساءات، وهذا هو الذي نراه اليوم هنا وهناك. والأمر الآخر هو أن انتصار النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مدعاة لأن تأخذه نشوة النصر فيطغى أو يستكبر أو ينتقم، بل كان فرصة لعودة من أخطأ عن خطئه فقال له جميعاً اذهبوا فأنتم الطلقاء فكان ذلك سبباً لإسلام أكثرهم.
تستوقفني عند هذه النقطة مسألة أريد أن الفت النظر إليها خارج النطاق الخاص بالخطبة، حملة مسعورة من قبل الأعداء على بلادنا تفتري على بلادنا أن فيها قتلى وضحايا وغير ذلك، وأن حقوق الإنسان فيها منتهكة، وأن الظلم والبغي والعدوان على الإنسان في هذه البلاد قد وصل لذروته، والعجيب أن حقوق الإنسان هنا يبحثون عنها، بينما حقوق الإنسان تدفن في مينامار وهنا وهناك، حيث يحرق الإنسان على الملأ ويباد عشرات الألوف من النساء والأطفال والرجال أمام أعين العالم كله وليس هناك من يبحث عن حقوق الإنسان، يتحدثون عن حقوق الإنسان وتسحل المرأة في بيت المقدس تطرد من بيتها ليدمر بيتها وتطرد إلى الشوارع وليس هناك من يبحث عن حقوق الإنسان، لجأ إلى أميركا الكثيرون, وهذا من خطأ أوهامهم ولكن الإجراء الذي تم أن فصلوا الأطفال عن آبائهم وأمهاتهم ووضعوا في أقفاص وكأنهم مجموعة من الحيوانات لا يراعون مشاعر طفل حرم من أبويه، وأين حقوق الإنسان في بلد يدعي حقوق الإنسان ويمزق حقوق إنسان، بلد الإجرام والطغيان، بلدٌ نذر أن يكون خادماً لنعال الصهيونية، ولو كلفه ذلك أن يتخلى عن ضمير أمته ونداءات أبناء بلده واستغاثات الناس من هنا وهناك، لص ما بلغت اللصوصية بإنسان أو بدولة كما بلغت بهم، سطوٌ على أموال الناس اعتداء على حقوق الشعوب، ثم يتحدثون عن حقوق الإنسان، إنه العهر السياسي السافل المنحط الذي بلغته تلك الدولة المعتدية المجرمة من سيدتها تلك السيدة الحقيرة التي تتربع على أرضنا في فلسطين، هو خادم حقي لتلك الدويلة أو لتلك المجموعة من تلك العصابات التي تتربع على أرضنا ومقدساتنا.


تشغيل

صوتي