مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/06/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: من نتائج صلح الحديبية

من نتائج صلح الحديبية
خطبة د. محمد توفيق رمضان البوطي
تاريخ الخطبة: 29/6/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا( وقال سبحانه: ) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(.
أيُّها المسلمون؛ ذكرنا في الجمعة الماضية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مع جمع من أصحابه إلى مكة لأداء العمرة، فصدتهم عن ذلك قريش، ثمَّ تإنه مَّ الاتفاق على عقد هدنة مع مشركي قريش لا يتعرض بموجبها المشركون للمسلمين في أمر دعوتهم ولا في سائر أمورهم، مما أتاح للمسلمين الفرصة للانطلاق بالدعوة في الآفاق، وكان الصحابة رضي الله عنهم قد توهموا أنَّ هذا الصلح فيه تنازلات للمشركين، ثم ما لبثوا أن اتضح لهم خطأ توهمهم فما أبرز نتائج هذا الصلح؟
أولاً: لابد من البيان أنَّ الإسلام يتجه نحو حقن الدماء، ويؤثر الخيار السلمي الذي مِن شأنه أن يعيد جو الألفة والمودة والأمن والسلام، وليس الخيارَ الأفضل القتالُ وسفك الدماء وتمزيق الأمة. لكن إذا اضطر الأمر فَسَيجد العدو أنَّ المسلمين قادرون على أن يواجهوا الخطر المحدق بهم، والتهديد لأمنهم وسلامتهم دون توانٍ ودون خوف، وهذا ما أثبتته الأيام، وهُزم المشركون أمام صمود وصبر وتصميم الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
خلال هذه الفترة - فترة هذا الصلح - مِن أبرز نتائجه: مواجهة خيانةٍ كانت قد بيتها يهود خيبر، بعد تحريض من حيي بن أخطب وبقية اليهود، فبادرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغزوة خيبر؛ حيث تمَّ فتح خيبر وهُزم اليهود، ثمَّ تمَّ الاتفاق مع اليهود أنفسهم أن يبقوا في خيبر بصفة عمال بعقد مساقاة مع المسلمين، يتجدد هذا العقد سنوياً كلما وجد المسلمون في ذلك لهم مصلحة. وخلال هذه الفترة أيضاً أرسل النبي صلى الله عليه وسلم كما أشرنا سابقاً الوفود إلى قبائل العرب والرسل إلى الملوك والأمراء المحيطين بجزيرة العرب يدعوهم إلى الإسلام، وخلال هذه الفترة وتنفيذاً لمقتضى هذا العقد وهذه الهدنة؛ في السنة التالية قام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأداء العمرة في مكة آمنين مطمئنين. وكان الاتفاق على أن يكون بقاءهم في مكة لمدة ثلاثة أيام، وتم ذلك.
وخلال هذه الفترة أيضاً جرت موقعة مؤتة والتي سميت غزوة مؤتة نظراً لخطورتها وأهميتها، وكونها مواجهة غير متكافئة انتهت بانتصار غير حاسم للمسلمين، ذلك أنَّ أمير الغساسنة، العميل لدولة الروم والأجير لخدمتهم، عندما أتاه رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي ما كان منه إلا أن أوثقه وقتله. والرسل لا يقتلون، المفاوضون أو المبعوثون لا يقتلون. ذهب موفد رسول الله إلى هرقل فما قتله. هذه دناءة وغدر قد انحط إليه شرحبيل بن عمر ملك الغساسنة، فكان لابد من معاقبته، جرد النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف، لكن في الوقت نفسه كان الغساسنة قد أجروا تحالفا مع الدولة الرومانية لإنشاء جيش قوامه مئتا ألف، وفوجئ المسلمون الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثة آلاف أنهم يواجهون جيشاً قوامه مئتا ألف، وكادوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم دعماً، لكن عبد الله بن رواحة قال لهم: إن الذي تخافون منه للَّذي جئتم من أجله وهو الشهادة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم بإلهام الله له يطلع على أحداث تلك المعركة، وكان قد أمَّر عليهم زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فإن قتل فليختر المسلمون لأنفسهم أميراً، وجرى الأمر كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم واختار الصحابة رضي الله عنهم سيف الله خالد بن الوليد t، وانتهت المعركة – كما قلنا - بانتصارٍ غير حاسم، كان سيدنا خالد قد استخدم أسلوب الحيلة العسكرية لِبَثِّ الرعب في قلوب الروم بطريقته الخاصة، مما جعلهم يجبنون عن المواجهة وينسحبون، ويكتفي سيدنا خالد فلا يحسم المعركة بعد انسحابهم.
خلال هذه الفترة –كما أشرنا- أسلم كثير من كبار المشركين ومنهم خالد بن الوليد الذي قاد المعركة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وعدد كبير من قريش، نعم، هذا الصلح كان لمدة عشر سنوات، لكن المشركين لم يستطيعوا الصبر على الالتزام بعهودهم، وهذا هو شأن مَن ليس له رادع من إيمان أو وازع من ضمير أو خلق أن يغدر. ولكن الغدر يعود على أصحابه بالوبال، أجل الصلح كان فترة ملائمة لإعادة جمع الكلمة لنشر الدعوة وهذا هو الصلح اليوم، هو فرصة لإعادة البناء وتصفية القلوب وإعادة بناء الأمة والوطن، وإعادة بناء المؤسسات والبنية التحتية لما تمَّ تدميره بسبب الفتنة التي أحاطت ببلادنا، )وَالصُّلْحُ خَيْرٌ( هكذا قال ربنا تبارك وتعالى.
تستوقفنا هنا بعض ما ذكرت من نتائج: فتح خيبر الذي انتهى بهزيمة اليهود، ثم الموافقة على بقائهم أجراء ولكن على أن يكون أمير خيبر من المسلمين، وأن تبقى خيبر إمارة إسلامية تابعة للدولة الإسلامية التي كان يتولى أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهود خيبر كانوا قد أرادوا الخيانة والتآمر، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقظاً فبادرهم بما أفشل عزيمتهم في الإساءة والنيل من الدولة الإسلامية والنبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فالإسلام يتعامل مع أعدائه، عندما يأمن جانبهم. وهو يؤثر التعامل الإيجابي، ولكن عندما تسول لهم نفوسهم الخيانة والغدر فالمسلمون أيقظ وأكثر نباهةً ووعياً من أن يقعوا فريسة غدر وخيانة من عدوهم، يقول عمر t: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".
غزوة مؤتة التي أشرت إليها كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في المدينة والمعركة تجري في مؤتة، فكان ينقل لهم وقائعها - كما روى البخاري - لحظة فلحظة، قُتل زيد، حمل الراية جعفر، قُتل جعفر حمل الراية عبد الله بن رواحة، قُتل عبد الله بن رواحة فحمل الراية سيف من سيوف الله، بهذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم. وعدم التكافؤ العددي لم يكن أمراً يعيق أو يجعل المسلمين يترددون عن المواجهة، لم يجبن المسلمون عن مواجهة صلَف أعدائهم وكثرة عددهم وعُدَدِهم أبداً، واجهوهم في غزوة بدر، وواجهوهم في غزوة أحد، وواجهوهم في غزوة الأحزاب، ولم يكن في أيٍ من هذه الغزوات تكافؤ عددي، بل كان المشركون دائما أكثر من المسلمين بكثير، وهاهم أمام مواجهة أعجب وأغرب كان ثلاثة آلاف في مواجهة مئتي ألف، أي: جدول من الماء يواجه بحراً متلاطماً، فاستطاع هذا الجدول بعون الله وتأييده أن يجعل هذا البحر ينحسر، ويجعل هؤلاء المشركين ينهزمون أمام إرادة وتوكل هؤلاء المسلمين على ربهم، وكانت التجربة التي ولّدت انتصار غزوة تبوك فيما بعد.
نعم، آخرُ ما يمكن أن يقال في هذا المقام: هو أنَّه بعد سنتين من توقيع هذا العقد غدر المشركون، ونقضوا اتفاقهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهو صلحاً كانوا يتمتعون خلاله بالأمان وحقن دمائهم، فكان غدرهم وبالاً عليهم. النبي صلى الله عليه وسلم ليس من شأنه أن يؤثر سفك الدماء، ولكن من شأنه أن يكون حازماً في المواقف. فمن غدر لابد من معاقبته. وكان الفتح الذي سنتحدث عنه. وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يتم هذا الفتح دون سفك دماء، أو على الأقل أن يكون سفك الدماء فيه في حده الأدنى تماماً حيث سَلِم المشركون ودخل النبي صلى الله عليه وسلم وجيشه بكل طمأنينة وسلام.
أسأل الله تعالى أن يعيد الأمن والسلامة على بلادنا، وأن يجعل كيد من يكيد لهذه البلاد في نحره، ومكر من يمكر بدينها أو بسلامتها مرتداً إليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.


تشغيل

صوتي