مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/03/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: غزوة بدر 2


غزوة بدر (2)
تاريخ الخطبة: 16/3/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ويقول سبحانه: ) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( روى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال: (بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله e والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله e فأخبراه).
تلك غزوة بدر؛ تحدثنا عن أحداثها في الأسبوع الماضي، واليوم نتحدث عن آثارها وبعض الحكم منها، لعل أبرز حكمة فيها أننا إذا واجهنا العدو-أي عدو يحارب الله ورسوله ويطغى في الأرض ويريد أن يعيث فيها فسادًا- فإن سلاحنا الثبات وصدق الالتجاء إلى الله U، ولا عبرة بالتفاوت العددي، فقد قال الله تعالى: )قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ( لئن تمالأت قوى الأرض كلها على أهل الحق والعدل، يريدون أن يذلوا الحق والعدل من خلال قتالهم، فإنهم سيهزمون إذا كان سلاح أهل الحق والعدل الثبات وصدق الالتجاء إلى الله U.
الذين خرجوا إلى بدر لم يخرجوا لملاقاة جيش، وإنَّما لاعتراض قافلة للمشركين الذين اضطهدوا المسلمين واستولوا على بيوتهم وأموالهم، وأخرجوهم بالقهر والإذلال حتى خرجوا فراراً بدينهم من مكة، نعم إنما خرجوا لملاقاة قافلة يقودها أبو سفيان، فنجا أبو سفيان بالقافلة، ولاقى هؤلاء القِلَّة الذين لا يتجاوز عددهم ثلاثمئة وأربعة عشر رجلًا جيشًا مدججًا بالسلاح، يفوق عددَهم أكثر من ثلاثة أضعاف، هذا الجيش جاء بطغيانه وغطرسته وكبريائه، يريد أن يحارب الله ورسوله، أمَّا أولئك فقد خرجوا مستضعفين يريدون أن ينالوا بعض حقوقهم مِن أولئك الذين ظلموهم واضطهدوهم، فلمَّا نجت القافلة استشار النبي r -كما ذكرنا- أصحابه، أبدى الصحابة الصادقون الذين رُبّوا في مدرسة النبوة على الإخلاص والثقة بالله تعالى، أبدوا ثباتًا ورضًا بمواجهة طغيان قريش وطغيان أبي جهل الذي كان يتزعم جيشهم، وكان فيهم فتَيَان، هذان الفَتيان لم يأمرهم النبي r بالخروج، ولا بالتصدي لأبي جهل فرعون هذه الأمة، إنَّما هو الإيمان ومحبة الله ورسولِه، هؤلاء الفَتَيان دفع بهما الانتصار لرسول الله والمحبة له، أن ينتصروا له من أشدِّ أعدائه إيذاءًا له وطغيانًا على الحق وأهله، لذلك وضعوا نُصب عينيهما أن ينتصرا للحق من أكبر رأس من رؤوس الباطل، على صغر سنهما، وتمكنا من ذلك بفضل الله U إنه الإخلاص والغيرة على الحق لم يُدفعا ولم يُجبرا ولم تُربَّ نفوسهما على الإرهاب والقتل، ولكنَّهما عندما وجدا أنَّهما في مواجهة من آذى رسول الله أرادا أن ينتصرا لرسول الله r.
ما أثرُ هذا الانتصار في بدر على اليهود المواطنين بالمدينة، الذين كتب النبي r بينه وبينهم وثيقة تعايش في المدينة المنورة وحماية لها، ماذا كان أثر ذلك عليهم؟ أغاظهم انتصار المسلمين؛ لأنهم كانوا يحقدون على الحق، يحقدون على الرسالة الإسلامية، لأنَّهم، وعلى الرغم مِن أنهم كانوا على علم بصدق رسول الله r، أبوا أن ينصاعوا إلى الحق حقدًا وحسدًا، فلما انتصر رسول الله r في هذه الغزوة على الرغم من التفاوت العددي العجيب بين صف المشركين الذين يتجاوزون الألف، وبين صف المسلمين الذين خرجوا لملاقاة قافلة وأعدوا عدتهم لملاقاة قافلة، فسقط من المسلمين ستة عشر شهيدًا، وسقط من المشركين سبعون جيفة، ووقع في أسر المسلمين سبعون أسيرًا )وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ( أغاظهم ذلك لسوء طويتهم، لأن طويتهم قذرة ألفت الخيانة، وهكذا كل من يثق بهؤلاء فإنه يثق بالثعلب على دجاجه، ويثق بالأفعى ويسكنها في بيته. كل من يثق باليهود أو بالأعداء الذين جعلوا من أنفسهم حماة لمغتصبي فلسطين؛ فإنه يثق بالعدو فيضع نفسه تحت رحمته.
عاد النبي r إلى المدينة منتصرًا، فأغاظهم هذا الانتصار فقالوا للنبي r مِن غير مناسبة: (أغرّك أنك انتصرت على أناس لا يحسنون القتال، لئن حاربتنا لرأيت أنَّا نحن الناس) ألستم حلفاءَ رسول الله المتفقين معه على حماية المدينة المنورة؟! لكن هؤلاء لا يمكن، وقد امتلأت نفوسهم بمعاني الخيانة والغدر، أن يُوثق بهم. فليثق بهم الأغبياء، وليثق بهم الذين يريدون أن يتمكنوا من كراسيّهم ما شاؤوا أن يثقوا بهم، لأن أول ضحية من ضحايا هذه الثقة هم أنفسهم، لقد خان اليهود الله ورسوله، ودفع بهم الغيظ إلى التمادي في الخيانة حتى نالوا من امرأة مسلمة تحرشوا بها ونالوا منها الأذى. فكان ذلك سببًا لنتائج أفضت إلى طرد هؤلاء الخونة من المدينة المنورة.
الأمر الآخر من حِكَم هذه الغزوة: أن المسلمين في هذه الغزوة كانوا في أول تجربة مع الغنيمة والأسرى، والمغانم والمكاسب في جهادنا وفي مواجهتنا لأعدائنا ليست هدفًا ولا غاية، الغاية إرضاء الله تعالى وإعلاء كلمته، الغاية ارساء أسس العدل والخير والهدى في الأرض. هناك غاية وهناك نتائج، قد تكون النتائج غنائم وتقدمًا ونتائج إيجابية عظيمة، لكن لا ينبغي أن تتحول النتائج إلى غايات. والنتيجة هي ما يكون بعد العمل، أمَّا الغاية فهي التي تكون قبل العمل دافعاً وهدفاً. الغاية هي إعلاء كلمة الحق والانتصار له، أمَّا عندما تتحول النتيجة إلى غاية فهذه بداية الانحراف. لذلك عندما سأل المنتصرون في غزوة بدر النبيَّ r عن هذه الغنائم ماذا نفعل بها؟ وقد سال لعاب بعضهم عليها، فزجرهم كتاب الله U وقال: )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ( ما ينبغي أن تكون الأموال سبب نزاع وخصومة وتنافس فيما بيننا، فهناك غاية أسمى ونتائج أعظم ضعوها في اعتباركم، هذا ما أشار إليه البيان الإلهي: )قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( بعد صفحات من هذا السؤال وهذا الجواب قال: )وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى...( إلى آخر الآية التي بينت كيفية توزيع الغنائم، تبيانًا أن الغنيمة نتيجة وليست غاية، والنتيجة قد تتحقق وقد لا تتحقق، أما الغاية فهي مرضاة الله.
أقول: بسبب هذه الحالة النفسية التي أصابت المسلمين جاء ذلك الدرس التأديبي، ثم أتبعه درس أشد في غزوة أحد عندما نسي الصحابة الدرس الأول. فقد انتصر المسلمون في بداية المعركة، وسال لعابهم على الغنائم؛ فترك بعضهم مواقعهم وذهبوا غلى الغنائم، يقول ربنا تبارك وتعالى: )وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ( التأديب الذي كان بسبب أربعين عصوا رسول الله نالت آثاره الصحابة، وبلغت حتى النبيَّ r نتيجة الخطأ التي ارتكبته هذه القِلَّة. ينبغي أن لا يسيل لعابنا لغنيمة ولا لمكاسب مادية، فهناك غايات أسمى وأهداف أعلى تتمثل في نصرة الحق ومرضاة الله سبحانه وتعالى، ومتى انحرفت وجهتنا عن بوصلة الحق ومرضاة الله U لم نحصد إلا أسوأ النتائج. إنَّ الذين يجاهدون فيما يزعمون- لنيل مكاسب دنيئة أو لإرضاء عدو أو لبلوغ كرسي حكم؛ عندئذ ستصطدم المصالح ويقوم الصراع بين المتنافسين، والعدو ينظر إليهم ويتمتع بصراعهم، يتمتع بما يراه من ضياع الأمَّة عن الهدف الأسمى وانحرافهم عن نهج الحق والسداد، ومن ثَمَّ تتوالى مظاهر الانحراف ونتائجه في حياة الأمة.
هناك أمور ينبغي أن يُعاد التمحيص فيها والتعرف عليها؛ حتى لا تنحرف بنا المسيرة عن مرضاة الله ونصرة الحق إلى نصرة الأنفس والأهواء، ) وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي