مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/03/2018

خطبة الدكتور توفيق البوطي: غزوة بدر


غزوة بدر
تاريخ الخطبة: 09/3/2018
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ويقول سبحانه في تفصيل هذه الغزوة –غزوة بدر-: ) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (.
عرضنا في الأسابيع الماضية للهجرة المباركة، والأسس التي أرساها النبي r للمجتمع الإسلامي الجديد وللدولة النبوية الناشئة في المدينة المنورة، والتي – هذه الأسس- تمثلت ببناء المسجد والمؤاخاة بين المسلمين، وبالوثيقة التي هي بمثابة دستور لتلك الدولة الناشئة، دستور يحفظ حقوق جميع مواطني تلك الدولة من مسلمين وغير مسلمين، ويحدد مسؤولياتهم وحقوقهم، هجرة المسلمين من مكة كانت بسب قهرٍ وقمع وظلم وفتنة، أعقب الهجرة استيلاء المشركين على أموال هؤلاء المهاجرين وبيوتهم؛ فقد خرجوا من مكة وليس معهم شيء إلا دينهم وإيمانهم، ضحوا بكل شيء حفاظًا على دينهم وإيمانهم، المشركون كانوا أعداء محاربين، وفي الحرب لا حرمة لمال، ولا حرمة لدم، لا حرمة لمال العدو ولا لدمه، لذلك؛ ندب النبي r الصحابة الكرام ولاسيما المهاجرين منهم- لاعتراض قافلة كان يقودها أبو سفيان قافلة كبيرة يتاجر فيها بأموال قريش، وقال: «هذه عير قريش فيها أمواله فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها»، فانتدب الناس، إلا أن الخروج إلى قافلة لا يستحق خروج الأمة، فخرج مَن شاء وبقي مَن شاء، تثاقل بعضهم لأنَّهم أصلًا لم يكونوا يتصورون أنَّهم إنما يخرجون لحربٍ؛ وإنما لاعتراض قافلة، وكان عدد هؤلاء المسلمين لا يتجاوز ثلاثمئة وأربعة عشر رجلًا، سلاحهم بسيط أُعدَّ لمواجهة قافلة لا لمقابلة جيش، ورابطوا قرب ماء بدر على الطريق بين مكة والمدينة طريق الشام، وشعر أبو سفيان بالأمر، فاتخذ طريقًا أخرى وأرسل مَن يستنجد بقريش، فثارت ثائرة أبي جهل وجرَّد جيشًا قوامه ألفٌ مدججين بالسلاح، ولمَّا نجت قافلة أبي سفيان أرسل إليهم أن لاموجب لخروجهم فقد نجت القافلة وهم على مقربة من مكة، لكنَّ أبا جهل بطغيانه واستكباره قال: (والله لا نعود حتى نرد بدرًا فنقيم ثلاثًا فننحر الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان -المغنيات- فلا تزال العرب تسمع بنا وتهاب جانبنا)، إذًا مضى إلى بدر ليقيم حفلًا فنيًا هناك يثبت به سطوته وكبرياءه وطغيانه، النبي r نزلت عليه الآية تعده بالنصر – كما أشرنا قبل قليل بالآية القرآنية )وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ( هنا بدأ الحديث يدور عن طائفتين، هم خرجوا لمواجهة قافلة وإذ يدور الحديث عن نصرٍ سواء قابلوا القافلة أو قابلوا الجيش، والنفس تواقة إلى الربح الذي لا يؤدي إلى تضحيات )وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ( ولو أن الأمر كان قد انتهى إلى الفوز بتلك القافلة لما كانت له تلك القيمة في تاريخ السيرة النبوية وفي تاريخ هذه الأمة، إلا أن الله قدر أمرا آخر، نجت القافلة وأصبحوا وجهًا لوجه أمام جيشٍ يفوق عددهم بأكثر من ثلاثة أضعاف، جيش مسلحٍ مدجج، هنا النبي r كما أمره الله عزَّ وجلَّ قال سبحانه )وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ( ووصف طبيعة منهج هذه الأمة )وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ(، شاور الصحابة الكرام؛ فتحدث المهاجرون فأحسنوا مقررين عازمين على طاعة النبي r مهما كلف ذلك من تضحيات، وأنَّهم مستعدون لمواجهة الجيش ماداموا واثقين بتأييد الله ونصره، ثم تكلَّم الأنصار وقالوا له: (يا رسول الله لقد آمنا بك وصدَّقناك فامضي لما أمرك الله) توجه النبي r واتخذ مواقع بإشارةٍ من أحد أصحابه ملائمة لمواجهة المشركين، وكانت سياسة النبي r أن يفرض على عدوه مكان وزمان المعركة، وهذا من خصائص الخطة العسكرية للنبي r أن يختار الزمان والمكان الذي يخوض فيها معركته مع أعدائه، فهيأ المكان ومكث ينتظر طغاة قريش وصناديدها، النبي r قال لأصحابه آنذاك: «والله لكأني أرى الآن مصارع القوم» يعني هو واثق من النصر، ويرى كيف سيسقط أبو جهل هنا، وعتبة وشيبة ابني ربيعة هنا، والآخر هناك، قد علم أين سيسقط كل واحد من طغاة قريش، فلذات أكباد قريش وطغاتها جاؤوا لمواجهة النبي r بشَّر النبي r أصحابه بالنصر وقال: «كأنني أرى مصارع القوم أمام عيني»، لكن ذلك لا يعني التقاعس وانتظار النصر أن ينزل من السماء؛ بل أمضى النبي r وأصحابه تلك اللية بالالتجاء إلى الله والتضرع إليه والإخلاص له، «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم فلن تعبد في الأرض»، «اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني»، حتى أشفق عليه سيدنا أبو بكر رضي الله عنه فقال له: (يا رسول الله ب.. مناشدتك لربك)، لكن النبي r منصرفًا إلى رفع كفيه إلى الله عزَّ وجلَّ ضارعًا إليه أن يؤيد أصحابه ودينه بالنصر، وأقبل المشركون بخيلهم وخيلائهم، وفي صبيحة يوم الجمعة من شهر رمضان في السنة الثانية، بعد سنتين من الهجرة بدأت المعركة، بدأت بحصبة من الحصباء أمسك بها النبي r ورمى بها قريشًا، حفنة من الحصباء رمي بها جيش المشركين وقال: «شاهت الوجوه»، تحولت تلك الحفنة إلى غبار يملأ الأفق ويملأ أعين المشركين، وبدأت المعركة حامية الوطيس ليسقط تحت نعال المسلمين سبعون جيفة من جيف المشركين؛ في مقدمتهم أبو جهل وصناديد الشرك، أقام حفلًا ملائم لكما كان يحب، ولا شك أن زعيقه وهو يلاقي وجه ربه بطغيانه وعربدته؛ كان ملائمًا للحفل الذي كان يريد إقامته، هو وطغاة قريش الآخرون، وسقط في أيدي المسلمين سبعون أسيرًا من المشركين، واستشهد من أصحاب رسول الله r ستة عشر صحابيًا جليلًا، هم شهداء بدر الذين كانوا طليعة الجهاد والصبر والمصابرة، نعم انتصر المسلمون في غزوة بدر.
هذا المشهد يحتاج إلى تأملات، قد لا يتسع الوقت لإعطائها حقها إلا أنني أريد أن أقف عند نقاط صغيرة وأُتمُّ الحديث عنها إن شاء الله في أسبوع قادم.
أولها: لا استبداد في الدولة الإسلامية؛ بل: وأمرهم شورى بينهم أَمَا أن تُفرض المعركة على الأمة دون اختيار منها برأي من عصبة غامضة لا نعلم من هي؛ فهذا الأمر ليس من طبيعة المجتمع الإسلامي، أبو الغضنفر وأبو فلان وأبو فلان أسماؤهم الكنى، هذه الغموضية ليست من طبيعة المجتمع الإسلامي؛ بل الوضوح والمشاورة والعزيمة الواحدة، يمضي المسلمون كلهم بالشورى بالوضوح بمعرفة مسارهم وطريقهم وقيادتهم، أما هذا الذي نسمع به فليس من الإسلام بشيء، هذا من الجاهلية الجديدة، هؤلاء هم الخوارج الجدد.
الأمر الآخر: أن شرط النصر الاستعداد والصحابة استعدوا بما يملكون من وسائل وثقتهم بالله عزَّ وجلَّ كانت أقوى استعداد تزودوا به )إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا( هذان هما السلاحان، الثبات والصمود والقرار الراسخ الذي بُني على ثقة بالله عزَّ وجلَّ، الأمر الثالث: دفعني إلى أن أقف عنه واحد من العملاء؛ يتزيى بزي المسلمين، ولكنَّه مِن مَن فرَّ إلى بلد أجنبي وانطلق بنعيقه وصراخه وتشويهه للإسلام من هناك، المشركون الذين سقطوا في هذه المعركة؛ رماهم النبي r وأصحابه في قليب بدر، هذا العلج الذي يسمى باسمٍ مسلم – ويلبس عمامة ويتزيى بزي المسلمين ولكنه يخلعها أحيانا ويضعها أحيانا- يسمي هذا التصرف مقبرة جماعية، ماذا تريد أيها الأفَّاك؟؟ هل تريد أن يترك النبي r جثث المشركين للفلاة لتتناوشها الكلاب والضواري!! هات فأخبرنا ما هو الدليل؟ إذا كان جيش المشركين لاذ بالفرار تاركًا من خلفه تلك الجثث؛ فماذا على النبي r أن يفعل هو وأصحابه!! واراهم في قليب بدر، لكنه أسف مسكين هذا الرجل لأن صديقه أبا جهل لم يوضع له نصب تذكاري هناك ولم يقم له قبر يرفع من شأنه، هذا الذي أسف له هذا الرجل المقيم في ألمانيا، يريد أن يُكذِّب دين الله ويتهجم على شريعة الله ويتهجم على مفهوم الجهاد وهو مقيم في أحضان أعدائنا ويخدم أهدافهم وأفكارهم المعادية لمبادئنا.
بقي مشهد بسيط؛ نادى النبي r على فم القليب قال للمشركين: «إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا» فقال له عمر: أتخاطب أناس قد جُيُوفوا ولَيَسمعونك؟؟ فقال: «ياعمر والله ما أنت بأسمع لي منهم» يسمعوني بأكثر مما تسمعني أنت، لأن حياة البرزخ تحررت من ضعف الهيكل الجسماني إلى عالم هو أشد اتساعًا وأقوى وضوحًا، «ما أنت بأسمع لي منهم»، نحن اليوم إذا قلنا: (السلام عليك يا رسول الله) اعترض علينا بعض المشركين، وإذا توسلنا بالنبي r : يا رسول الله إنا نتوجه بك إلى ربك سموا ذلك شِركًا، أما هو في الحياة البرزخية؟؟ من عجب أن المشركين في القليب يسمعوننا والنبي r إذا خاطبناه في الحياة البرزخية تكون مخاطبتنا له شركًا، هذا هو الجهل بعينه.
أسأل الله أن يلهمنا السداد والرشد، وأسأل الله أن يجمع كلمة أمتنا على الهدى والخير وأن يؤيد المسلمين اليوم بعودة راشدة إلى دينه ونصر مؤزر بإذن الله.


تشغيل

صوتي