مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/12/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي : السقيا والجفاف في السيرة النبوية

السقيا والجفاف في السيرة النبوية
خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
الجمعة بتاريخ 29-12-2017
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى حكاية عن سيدنا نوح صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم: ) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا # ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا # ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا # فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا # يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا # وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا( وروى البخاري: (أَنَّ النَّبِيَّ r خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود: (أن قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى النَّبِيِّ r دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجَهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا العِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجَهْدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: )فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ( قَالَ: فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ e فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ، قَالَ: «لِمُضَرَ؟ إِنَّكَ لَجَرِيءٌ» فَاسْتَسْقَى لَهُمْ فَسُقُوا، فَنَزَلَتْ: )إِنَّكُمْ عَائِدُونَ( فَلَمَّا أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ عَادُوا إِلَى حَالِهِمْ حِينَ أَصَابَتْهُمُ الرَّفَاهِيَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ U: )يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ( قَالَ: يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ) وروى ابن خزيمة في صحيحه عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ "أَنَّ النَّبِيَّ r خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَقَلَبَ رِدَاءَهُ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ). سئل الراوي عن قلبه رداه كيف جعله؟ قال: جعل اليمين الشمال والشمال اليمين.
أيُّها المسلمون؛ جرينا لأسابيع مضت على ذكر صفحات من سيرة المصطفى r، ونحن في هذه المرة أمام صفحة خاصَّة من سيرة النبي r اخترتها لمناسبتها بما يتعلق بحالنا اليوم حيث احتبس القطر وامتنع المطر، وقد أوغلنا في الشتاء دون شتاء، وصار الناس بأشد الحاجة إلى رحمة الله وغيثه، جفت الأرض وغدت مياه الينابيع والآبار تهدد بالنضوب، فتأملوا لو أن أحدكم فتح صنابير المياه في بيته، فلم يجد الماء )قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ( لقد توقفت المياه عنا بفعل المجرمين في مثل هذا التاريخ منذ سنة، وعانيتم بعض المعاناة، لكن البديل على صعوبته كان موجودًا، فقد استنفرت الدولة له كل وسائلها. ولكن إن توقف قطر السماء فمن أين يمكن أن يؤمن الماء؟ من أين يمكن أن نؤمن مياه الشرب إن جفت الينابيع التي أكرمنا الله U بها؟ من أين يمكن أن نروي ظمأنا أو أن ندبر أمر طهارتنا وأمر نظافتنا ونظافة بيوتنا؟ إن الاستكبار والغفلة مصيبة لن يحصد الناس منها سوى مزيد من الذل والظمأ والمرض والقذارة إلى غير ذلك، ألم يقل الله تعالى )وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ( ألم تقرؤوا في سورة الكهف قصة الرجلين اللذين كان لأحدهما جنتان من أعناب تحفهما أشجار النخيل، وجعل بينهما زرعا فاستكبر واغتر وقال: )وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا # وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا( ووعظه صاحبه محذرًا قال: )فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا # أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا # وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا # وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا(.
استكبرت قريش فدعا عليها النبي r دعاء تنبيه وايقاظ لا دعاء حقد وشماتة، دعا عليهم تنبيها لهم بسنين كسني يوسف فلم يجدوا ملاذاً لأنفسهم إلا إليه e حتى قالوا: (استسقِ لمضر فإنها قد هلك) فاستسقى لهم فسقوا، فنزلت )إِنَّكُمْ عَائِدُونَ( إلى حالتكم السابقة، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى طغيانهم فأنزل الله تعالى: )يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُون( فأراهم نقمته في يوم بدر، حيث أذل الله كبرياء قريش وغطرستها.
أيها المسلمون؛ نحن اليوم بأشد الحاجة إلى عودة راشدة لصوابنا، إلى ربنا، نصلح بها سلوكنا ونُقوِّم بها اعوجاجنا نصحح علاقتنا بربنا، نصل الرحم نبرُّ الوالدين نمنع الظلم فيما بيننا، نتوب توبة نصوحا، نستجيب لربنا )اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا استغفروا( استغفروا من الظلم من الغش من الطغيان من قطيعة الرحم من إساءة الجوار، من الظلم الذي شاع فيما بيننا، من الفسق الذي شاع في شوارعنا، من التعري الذي لم نعد نميز فيه بين مسلمة وغير مسلمة، من حالة بائسة شاعت في بيوتنا في منازلنا بين أبنائنا وبناتنا، أهملنا التربية، وضيعنا الحدود والحرمات، وأهملنا كتاب الله U أما آن لنا أن نستيقظ؟ أتتنا هذه الفتنة العمياء؛ فعرضنا موازين الشرع ليتبين الخير من الشر والصواب من الخطأ، فأعرض أكثرنا، فها نحن نحصد زرع تلك الفتنة. ومن بعدها لم نرتدع، بل إننا ماضون وللأسف في غيِّنا في غفلتنا في معاصينا.
على كلٍ منا أن يرجع إلى نفسه إلى بيته إلى حاله، إلى لسانه إلى سمعه إلى بصره، أقول إلى سمعه ولسانه وبصره، إلى كسبه... هل هو أمين في كسبه؟ هل هو مستقيم في معاملته؟ هل هو صادق في حديثه؟ ليعد كل منا إلى نفسه، كلكم راع، راع على أولاده وبناته وزوجته، فهل كنا أمناء على ما استرعانا الله U؟ هل كنا أمناء على بيوتنا على أعراضنا على بناتنا على أبنائنا؟ )لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ( على ألسنة الأنبياء لعنوا...بأي ذنب لعنوا؟ )كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ( جريمتهم أن المعاصي انتشرت في مجتمعهم فلم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر. هذا الكلام موجه إلى كل مسلم في بلادنا، بل إلى كل مسلم في الدنيا، أن يعود فيحاسب نفسه، أن يرعويَ وأن يتوب، فاليوم عمل ولا حساب، ولكن غدًا حساب ولا عمل. قد تأتينا القوارع، والقوارع رحمة لأنها توقظ مَن بقيت لديه بقية إيمان، توقظ من كانت في قلبه بقية روادع ومخافة من الله U، علينا أن نحاسب أنفسنا جميعًا بكل فئاتنا كبيرنا وصغيرنا، ذَكَرنا وأنثانا، مدنيين وعسكريين، مسؤولين ومواطنين، من كان في موقع المسؤولية ومَن كان في موقع الرعية. كلنا يجب أن نحاسب أنفسنا وأن نعود إلى ربنا وأن نتقي الله، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. إن مثل هذه التنبيهات من جفاف وقحط وقلة أمطار أو غلاء أو فتنة أو نحو ذلك إنما هي كما قال ربنا تبارك وتعالى )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(.
وبعد فإنه استجابة لأمر ربنا إذ أمرنا أن نستغفره ونعود إليه، وسنةِ نبينا حيث أمر بصلاة الاستسقاء، والتزامًا بأمر ولي الأمر – لأن صلاة الاستسقاء إنما تكون بتوجيه من ولي الأمر- والتزامًا بأمر ولي الأمر الذي استجاب لأمر الله فيما أصدر؛ أقول سنصلي صلاة الاستسقاء اليوم. والاستسقاء يبدأ بدعاء في أعقاب الصلوات، ثم يمكن أن يتم بالصورة التي تتاح لنا، واليوم ستصلى صلاة الاستسقاء في جميع المساجد في هذه البلاد على امتدادها، بهذا صدر التوجيه، وبهذا ينبغي أن نعمل لأنه أمر الله U هو الذي قال لنا: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا # يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا( وربط كشف الغمة التي نعاني منها باستغفارنا بتوبتنا بأوبتنا إلى ربنا تبارك وتعالى، بعد صلاة الجمعة مباشرة سوف نصلي صلاة الاستسقاء، وصلاة الاستسقاء يمكن أن تتقدمها الخطبة ويمكن أن تكون الخطبة بعدها، وفيها كما رأينا دعاء مخلص؛ بتضرع بصدق بابتهال بتوبة باستغفار إلى الله U أن يغفر ويرحم وأن يكشف عنا البلاء الذي حلّ بنا، والذي أحاط بنا من كل جانب، نعم صلاة الاستسقاء ركعتان كصلاة العيد، سبع تكبيرات في الركعة الأولى بعد تكبيرة الإحرام، وخمس تكبيرات في الركعة الثانية بعد تكبيرة القيام، وأما في الخطبة فإننا نستبدل بالتكبير الاستغفار، تسعًا في الخطبة الأولى وسبعاً في الخطبة الثانية، وفي الخطبة الثانية يبدأ في الدعاء كما هو في خطبة الجمعة، ولكنه بعد ذلك يقلب ثوبه – هكذا ورد في السنة- ويقلب الناس ثيابهم فيما أتيح لهم على النحو الممكن، ثم يتجه إلى القبلة ويتابع الدعاء مستقبلا القبلة خلافا لما هو الحال في صلاة الجمعة، على هذا النحو سوف نقيم صلاة الاستسقاء في مسجدنا هذا إن شاء الله تعالى، ونسأل الله سبحانه وتعالى ليغيثنا ويرحمنا وبفرج عنا إنه غفور رحيم مجيب للدعاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي