مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 10/11/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: نشأته صلى الله عليه وسلم

نشأته صلى الله عليه وسلم
خطبة الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
بتاريخ 10 / 11 / 2017
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود( ويقول سبحانه في وصف النبي r ورسالاته: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( ويقول أيضًا: )وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ( ويقول U: )بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ # وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ # الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ # وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(.
أيُّها المسلمون؛ نتابع تأملات في صفحات مِن سيرة وشمائل المصطفى r وبين يدي ذكرى مولده عليه الصلاة والسلام، اتفقت روايات علماء السيرة على أنَّ النبي r لما استُرضع في بادية بني سعد وأخذته حليمة السعدية؛ كانت ديار بني سعد بلقعاً مجدبة، وكانت ضروع أنعامها قد جفت لقحط أصابها، وقلة العشب والزرع، فما أنْ حلَّ النبي r في بادية بني سعد حتى أمرعت أرضها وامتلأت ضروع أنعامها فقالوا لحليمة: لقد جئتِ بنسمة مباركة، هذا رسول الله وهو رضيع r، وروى مسلم في مشهد آخر عن أنس t: «أنَّ رسول الله r أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان –أي في بادية بني سعد وقد بلغ الثالثة من العمر- فأخذه فصرعه –أي: أوقعه أرضًا- فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَه – أعاد الوضع إلى ما كان عليه- ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه –أي : مرضعته- فقالوا: إن محمدًا قد قتل -هذا الذي رآه الغلمان- فاستقبلوه وهو مقبل عليهم منتقع الوجه مصفر اللون، قال أنس: وكنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره r» أثر العمل الجراحي الذي جرى للنبي r رآه أنس t في صدره الشريف.
وبعد وفاة جده كفله عمه، فرعاه خير رعاية وحَدَب عليه وعطف عليه، حتى إنَّه عندما مضى تاجرًا إلى الشام لم يَرُق لأبي طالب أن يُبقى مكفولَه وحيدًا، فصحبه ليؤنس وحشته وليعوض له عن ألم يتمه، حتى إذا بلغ الشام أو أوائل الشام عند بُصرى، نزل هناك قريبًا مِن منزل كان فيه بحيرا الراهب، فيما روى ابن سعد والأصبهاني وسائر علماء السيرة، كان ذلك في السنة الثانية عشر مِن عمره r، رآه بحيرا فقال لأبي طالب في كلام مطول: (ما يكون هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما ينبغي أن يكون لهذا الغلام أب، قال: إنه ابن أخي، قال: عد به إلى مكة، فإن يهود إذا رأوه قتلوه، وإن لابن أخيك هذا شأنًا) بشر بنبوته وهو لا يزال في الثانية عشر من عمره، ولذلك رد أبا طالب محمد r إلى مكة، ونشأ في رعاية أبي طالب إلى أن شبَّ يكلؤه ويرعاه ويحفظه ويحوطه. تولى ربنا U تولى تربية سيدنا محمد r ليكون بمنأى عن أوضار الجاهلية، لما بلغ النبي r الخامسة عشر من عمره، وجد في نفسه قدرة على العمل؛ مضى يسعى إلى العمل فعمل في الرعي على قراريط "دراهم" من أهل مكة، وهناك حدثت حادثة طريفة، إذ النبي r كغيره يشعر بالحاجة إلى الترفيه وإلى نوع من المتعة، ففي ليلة قال لشريكه في الرعي: لو أخذت غُنيماتي لأنزل فأسمر مع أهل مكة كما يسمرون، وكان طالما قد أخذ أغنام شريكه فلما وصل النبي r إلى مكة سمع صوت عزف –عرس- فجلس قريبًا من ذلك المكان وجلس لكي يتمتع بصوت ذلك العزف، قال: «فضرب الله على أذنه فنام، فما أيقظه إلا حر الشمس» خلافًا لعادته، وكان ذلك الأمر درساً له أنَّ هذا الأمر مما لا يليق به عليه الصلاة والسلام، وهذا مظهر من مظاهر حفظ الله له من أوضار الجاهلية.
وتميزت شخصية النبي r في طفولته ويفعه وشبابه تميزًا خاصًا، فكان قد عُرف بمنتهى الأمانة والصدق، حتى اشتهر بين الناس بالأمين والصادق، وهذا مظهر من مظاهر خصوصياته r وعناية الله U به، وكان قد أراد أن لا يكون عبئًا على عمه، فقام بالعمل والسعي إلى الرزق عندما وجد لديه القدرة على ذلك، ولم يكتف بذلك، بل إنَّه عندما وجد لديه سعة طلب مِن عمه أن يعينه وكان عمه ذا عيال- وأخذ عنه علي بن أبي طالب ليكفله ويرعاه ولينفق عليه ولينشأ في حجره. هذه النفس الطاهرة النقية السامية التي رعى الله تعالى نفسه r عليها، من السمو الأخلاقي والعفة، وظل سيدنا علي t في كنف النبي r حتى زوجه ابنته.
ونقف فنتأمل هذه المشاهد، نقول: أمَّا البركة التي حلَّت في بادية بني سعد، فهي إشارة واضحة أنَّ هذا الإنسان العظيم له شأنه وفيه من الخصوصية ما ليس في غيره، ليشتهر أمره ويدرك الناس أنَّه سيكون له شأن، فمنذ كان رضيعًا حلَّ في بادية بني سعد فأمرعت بعد أن أجدبت وامتلأت ضروع بهائمها، فكيف إذا شب هذا الغلام وصار شابًا وكهلًا ماذا سيكون مِن شأن هذه العناية والرعاية الإلهية والبركة التي جعلها فيه r؟ وأمَّا حادثة شق صدره عليه الصلاة والسلام؛ فهي إعلان وإرهاص، بلا شك هي مظهر من عناية الله U به، قال: «هذا حظ الشيطان منك»، تُرى هل يتم استئصال غدة الشر من جسم الإنسان بعملية جراحية؟ إذاً فلنسارع إلى إجراء تلك العملية الجراحية لننجو من غدة الشر التي ابتلينا بها! لا إنما هو إعلان وإظهار للعناية الإلهية الخاصة المتميزة به r وليشتهر أمره وليعرف القاصي والداني أن محمد بن عبد الله r إنسان أعده الله U لأمر عظيم، وأن هذا الذي جرى له هو إشهار وإعلان لعظيم شأنه ولما سيكون من أمره. حتى لا يفاجأ الناس ويدّعوا أنَّ أمر طرأ من غير مقدمات، بل هي مقدمات كانت قد جرت له عليه الصلاة والسلام.
أما بالنسبة لمسألة رحلته إلى الشام وملاحظة بحيرا الراهب له، ليس بحيرا الراهبُ الوحيدَ الذي بشر به، فقد قال تعالى: )وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِه ولتنصرنه( أخذ ذلك العهد على الأنبياء من قبله، ولقد بشر ببعثة النبي r موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء الآخرين، سائر الأنبياء بشروا ببعثته، فهو النبي الذي أرسل إلى الناس كافة، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة. والذين تأملوا في الانجيل بإنصاف وتعمق وتأملوا في التوراة بإنصاف وتعمق وجدوا – لا أقول الإشارات- بل بالبشارات الصريحة ببعثته r وباسمه الكريم عليه الصلاة والسلام، وكان رهبان النصارى في هذه البلاد التي نحن فيها بقايا الرهبان كلهم ممن كانوا على الحق والهدى قد بشروا ببعثة النبي r وقالوا إن نبيًا قد أظل زمانة سيبعث في مكة -وسيمت بريةَ فاران- وسيهاجر إلى المدينة وكان اليهود في المدينة يبشرون ببعثته، ولكنهم عندما بُعث تمردوا استكبارًا وعنادًا وهذا مظهر من مظاهر الخصوصيات التي خصت رسول الله r ودليل من دلائل صدق نبوته، إذاً فالينبوع واحد والأصل واحد والجذر واحد، المنهل من عند الله U والأنبياء كلهم جاءوا لتأكيد حقيقة اعتقادية واحدة، ولينشروا العدل والخير ومحاسن الأخلاق في هذه الأرض، كل الأنبياء؛ الأتباع منهم من كان على هدى ومنهم من ضل، أما الأنبياء فكلهم بعثوا لتأكيد حقيقة اعتقادية واحدة وللدعوة إلى قيم أخلاقية واحدة
هذه مشاهد أقف عندها وندع بقية الأمور إن شاء الله لأسابيع قادمة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي