مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 08/09/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: بورما..وأصحاب الأخدود

بورما..وأصحاب الأخدود
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( ويقول سبحانه وتعالى لنا: )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ ظلم معاهدًا كنتُ خصمه يوم القيامة، ومَن كنتُ خصمه؛ خصمتُه يوم القيامة»، وفي العهدة العمرية التي كتبها عمر رضي الله عنه بين المسلمين وبين نصارى بيت المقدس: (هذا ما أعطى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيلياء- يعني بيت المقدس- من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنْ لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منهلا ولا من حيزها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود).
أيُّها المسلمون؛ سورة البروج التي قرأتُ صدرًا منها، تشير إلى قصة أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وبعض كتب السنة الأخرى، أنَّ ملكًا جبارًا طاغيةً كان يحكم بلدًا وكان يعتمد في هيمنته على النصب على السحرة الذين كانوا في حاشيته، وكان له ساحر يعتمد عليه كثيرًا – لا أريد أنْ أستقيض في القصة- تعلم السحر منه غلامٌ قدر الله له أنْ يجد طريق الحق فيختار طريق الحق على طريق السحر، فأسلم الغلام وأجرى الله على يديه الكثير من الكرامات، منها شفاء وزير الملك ومنها أمور أخرى، فأسلم بعض من انتفع على يده، فبلغ ذلك الملك، فاضطهد ذلك الغلام حتى أقرَّ بمن علمه دينه، فقتله، ثم قتل وزيره، ثم قتل كل من عرف أنَّه اهتدى على يديه، ثم عندما أراد قتل الغلام؛ أراد أنْ يضغط عليه أولًا، فاستعمل شتى الوسائل في الضغط عليه ففشلت الوسائل وبقي الغلام وسقطت الأساليب التي كان قد سلكها، فقال الغلام للملك: إنْ أردت قتلي فلك طريق واحد هو أنْ تجمع الناس في صعيد واحد ثم تأخذ سمهًا من كنانتي، ثم ترميني بذلك السهم وتقول بسم الله رب الغلام، عندئذٍ تستطيع أن تقتلني، ففعل الملك واستشهد الغلام، فأسلم الناس كلهم، فجن جنون الملم فأمر جنوده فحفروا أخدود- كخندق- وأوقدوا فيه نارًا وزجوا كل مَن اهتدى بسبب الغلام بتلك النار فيما قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أن امرأة أشفقت على وليدها وهو في حجرها، فقال لها وهو حديث الولادة: قعي يا أمها فإنَّك على الحق، لم يتمكن الملك من أنْ يفتن الناس عن دينهم، وقد أشار ربنا تبارك وتعالى بقوله: )إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ( بدأ الآيات بقوله: )قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ( هذا بمثابة الدعاء، ما جرى لأصحاب الأخدود يجري اليوم كما تسمعون ومنذ ست سنوات في بورما، من قِبَل الحكومة المتعصبة الباغية الطاغية، وما كان لها أنْ تفعل ذلك لولا الدعم والتأييد مِن دول الاستكبار والطغيان التي تشجع الحكومة البورميا على ممارسة ما تقشعر له الأبدان التي لم يسجل التاريخ لها نظيرًا- فاقت محاكم التفتيش التي جرت في الأندلس، حتى إنهم ليستمتعوا بإحراق الأطفال الصغار وهم أحياء، سلكوا أساليب شتى في قمع وقهر واضطهاد إخواننا مسلمي بورما، نحن ديننا واسلامنا يأبى علينا أنْ نكره إنسان على ترك دينه، ويأمرنا أنْ نعامل غير المسلمين في الدولة الإسلامية كما نعامل المواطنين المسلمين، ولقد قرأت لكم الحديث النبوي الشريف: «مَنْ ظلم معاهدًا كنتُ خصمه يوم القيامة» أي مواطن غير مسلم، وقرأنا أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للبشرية، ما قال رحمة للمسلمين، قال:)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(، عندما يسمع المسلمون اليوم ما يتعرض له إخوانهم هنا وهناك من الاضطهاد والقمع والأذى والتعذيب يجب أن يستذكروا أمورا متعددة، الأمر الأول: أنَّ مَن يسلك أسلوب القمع والقهر والاضطهاد هو الجبان، هو الفاشل، هو من أعيته الحجة، ومن أعجزته في ذاته في عقيدته ما يدل أنَّه على حق، فواجه الكلمة بالقمع، وواجه الحجة بالضرب، نعم أرادوا اسكات الحق بالباطل واسكات الخير بالشر، وهذا الأمر الأول، الأمر الثاني: أنَّ حُصول الفتنة في منطقة ما في العالم بين المسلمين وغيرهم هو تدبير ومكر قذر ترسم مخططاته الصهيونية العالمية والغرب الحاقد، منحت رئيسة وزراء بورما جائزة نوبل للسلام- وأيُّ سلام!!- كما مُنح رؤساء اسرائيل الذين مارسوا أبشع الجرائم بحق الفلسطينيين جائزة نوبل للسلام، فمجزرة (قانا) كوفئ عليها من قام بها بجائزة نوبل للسلام، ومجزرة (دير ياسين) كوفئ عليها من قام بها بجائزة نوبل للسلام، وجازر (بورما) يكافأ عليها رئيسة وزرائهم بجائزة نوبل للسلام، هذا الأمر ينبغي أنْ نعود إلى تفسيراته وإلى تحليلاته، لماذا يجري هذا الأمر؟؟ أريد أن أضعكم أمام صورة، بريطانيا عندما استعمرت الهند كان المسلمون والبوذيون والهندوس يعيشون بسلام، كلٌ له دينه ويمارس شعائره ولا يتعرض للآخرين لأن المسلمين لم يكرهوا أحدًا على ترك دينه وربنا تبارك وتعالى يقول: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ(، فماذا فعل البريطانيون، أتوا في الليل فقتلوا خنزيرًا ورموا رأسه في المسجد؛ ليتهم المسلمون البوذيين والهندوس بذلك، وبما أن الهندوس يقدسون البقر قتلوا بقرة ورموا رأس البقرة في معبدهم لكي يتهموا المسلمين في ذلك، ثم حرضوا كل فريقٍ على الآخر لتقوم مجزرة في الهند لا تقوم للهند بعدها قائمة في مواجهة الاستعمار البريطاني، ولتغدو الهند لقمة سائغة في فمها، هذا الأمر سجله التاريخ ويسجل اليوم بالممارسات التي تجري وبتشجيع من الرئيس السابق الذي احتضن رئيسة وزراء بورما وقبلها تأييدا لها وتشجيعا لها على جرائمها، هذا الذي يجري وبدعم من الدولة المسخ اسرائيل، ينبغي أن نكون على يقظة وتنبه، كلكم يعلم أن الفتنة التي جرت في بلادنا استعملت فيها الورقة نفسها لإحداث الوقيعة بين أبناء الوطن هذا من الطائفة الفلانية وهذا من الطائفة الفلانية، وهذا من الفئة الفلانية وذاك من الفئة الفلانية، ونحن نعلم أنَّ بلدنا نسيج اجتماعي ملون فيه أطياف متعددة وليس من الآن، فما الذي جد الآن لتثار هذه المشكلة؟؟ ما الجديد حي باب توما كما ذكرت في خطب سابقة فيه السنة والشيعة واليهود والنصارى بأطيافٍ متعددة الأرثوذكس والبروستانت والكاثوليك، وقد يكون في البناء الواحد المسلم والنصراني الأرثوذكسي والكاثوليكي والشيعي كلهم يعيشون في بناء واحد يزورون بعضهم كما يزور الجار جاره بكل وئام، ما معنى أن تُستعمل ورقة الفرز الطائفي لإحداث الوقيعة بين أبناء البلد الواحد مع العلم بأن الإسلام يرفض اكراه الآخرين على دينه ويرفض الفتنة بشتى أشكالها، لكن ربنا تبارك وتعالى الذي تكفل لهذه البلاد أسقط المؤامرة ولم يستطع هؤلاء المجرمون الذين يخططون أن يحققوا أهدافهم في إحداث الوقيعة بين الجار وجاره لاختلاف مذهب أو دين أو غير ذلك، أرادوها فتنة عمياء يقتل الناس فيها بعضهم بناء على الفرز الطائفي، ولكن ذلك لم يقع لأن الأمة هنا فيها عاملان عامل ظاهر وعامل خفي، أما العامل الظاهر فهو تعاليم ديننا التي تنهانا عن ذلك )لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ( ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول «مَنْ ظلم معاهدًا كنتُ خصمه يوم القيامة، ومَن كنتُ خصمه؛ خصمتُه يوم القيامة» وقد أمرنا بإحسان المعاملة مع الجار ومع المواطن الذي يعيش معنا، والعامل الخفي هو الكفالة الربانية لهذه البلاد، إن الله تكفل لي بالشام وأهله، وقد تجلت هذه الكفالة بفضل الله عزَّ وجلَّ، أقول: ضمير العالم والمؤسسات الدولية قد مات عندما حصلت جريمة إرهابية مفتعلة هم نظموها وهم فعلوها وهم دبروها في باريس فقتل أربع صحفيين أساؤوا يومًا للإسلام، قتلوا بفعل فاعل، خرج في جنازته كثير من زعماء العالم وكثير من أقطاب الطغيان والاستكبار العالمي واليوم يقتل الآلاف وتحرق (2800) منزل في بورما للمسلمين ولا يتحرق قلب إنسان واحد من هؤلاء المجرمين، إنَّه المكيالان، مكيال ينادون فيه بحقوق الإنسان من أجل أنفسهم من أجل أدواتهم من أجل الصهيونية، ومكيال يريدون به قمع الإسلام وقهر أبنائه لكننا نقول: يومًا بعد يوم يتعرى هؤلاء المجرمون والإنسان الغربي، يومًا بعد يوم يدرك أنه فريسة خديعة، وأنه ضحية خديعة يمارسها حكامهم لكي يحدثوا الفتنة في بلادهم على حساب حرية فكرهم، على حساب معرفة الحق الذي يمكن أن يصلوا إليه من خلال وجود الدعوة الإسلامية التي ضاقوا ذرعًا بها، مع أنَّ الإسلام في الغرب لم يؤذي أحدًا، لكنهم هم الذين دبروا، فالمنظمات الإرهابية في بلادنا صنيعتهم، وما يجري في بلادهم من تخطيطهم، مِن أجل تشويه الإسلام وتنفير الناس منه، نحن اليوم بحاجة إلى مزيد من الوعي وإلى مزيد من اليقظة، وإلى فهم لحقائق إسلامنا وإلى صدق الالتجاء إلى الله أن يجعلنا بمنأى عن مخططاتهم ومؤامراتهم.
أسأل الله أن يتولى المسلمين بعين عنايته وأن يفرج عنهم في كل بقعة من بقاع العالم فرجًا قريبا في كل بقاع العالم.
خطبة الجمعة
في 8/9/2017


تشغيل

صوتي