مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 15/09/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: قيمة الوقت

قيمة الوقت
د. محمد توفيق رمضان البوطي
خطبة الجمعة 15/9/2017
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم ) وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ( ويقول سبحانه وتعالى لنا: )وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ( عن ابن عمر رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعدَّ نفسك من أهل القبور» ثم قال ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رواية: «إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا» وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن عمرو بن ميمون: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: اغتنم خمسًا قبل خمس، حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك»
أيها المسلمون؛ أيام قليلة ونودع من عمرنا عاماً لنستقبل عاماً جديداً، ونبتعد عن ولادة الدولة الإسلامية التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم سبعًا وثلاثين وأربعمائة وألف عام، لنستهل عامًا جديدا، أجل إنه العمر بالنسبة لكل فرد منا، وإنه التاريخ بالنسبة لأمتنا، واللذان يشهدان لنا أو علينا. كم نوه كتاب الله سبحانه وتعالى بأهمية الوقت والزمن، فقال: )وَالْعَصْرِ( )وَالْفَجْرِ ( )وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى( )وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا( وذكر آياتٍ كثيرةً نوّه فيها بالوقت. كم حذرنا من فوات العمر دون تدبر منا أننا مجرد أيام، كلما مضى يوم نقص جزء من وجودنا وارتحل إلى الله سبحانه وتعالى ليشهد لنا أو يشهد علينا، كم نبه إلى ضرورة استثمار الوقت قبل فواته فقال: )وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ( وقال: )حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ( إلى أن قال: )قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(
أيها المسلمون؛ الإنسان قيمته عمله الخيّر النافع، وفرصته لتحقيق قيمته إنما هي عمره، إنما هو الوقت. فالوقت هو الحياة، والحياة هي أنت. وصدق أبو الدرداء إذ قال: (ابنَ آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قريب تكون قبرك، ابنَ آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضُك، ابنَ آدم إنك لم تزل في هدم عمرك منذ يوم ولدتك أمك) تُرى هل تكون نهاية سنة من عمرنا وبداية سنة جديدة إيذانا بيقظة تجعلنا نغذ السير ونضاعف الجهد في طريق الخير في طريق الصلاح في طريق التقى في طريق طاعة الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه، أم إن الغفلة قد أخذت بمجامع اهتماماتنا، فصرف هذه الاهتمامات إلى الأهواء والنزوات إلى الشهوات والمعاصي، غافلين عما ينتظرنا غداً بين يدي ربنا يوم تبدو السريرة علانية يوم يندم المرء ولات ساعة مندم.
أيها المسلمون؛ إن ولادة الدولة الإسلامية الأولى التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما تعني ولادة أمة ترفض التبعية والخضوع لدول الطغيان والاستكبار، ترفض أن تكون مستعبدة للفرس أو للروم أو لغيرهما من الأمم، تعني ولادة حضارة تفيأت ظلالها الإنسانية كلها؛ بما قدمت من علوم وثقافة ومعارف وأخلاق وعزة وكرامة وحقائق دينية ثابتة راسخة تستمد قيمتها من براهينها وأدلتها القاطعة التي لا ريب فيها ولا شك.
ولئن حاول الغرب اليوم والحاقد على أمتنا تشويه حضارتنا بأدواته القذرة المتمثلة بتلك العصابات الإرهابية التي تتقنع بالإسلام، والمنتشرة هنا وهناك، تبتغي تشويه مبادئ ديننا السامية ومسخ صورة حضارتنا الشامخة، والتي دمر جيشنا فلولها، فإن التاريخ والتراث والحضارة والعلم ليشهد كل ذلك لأمتنا كيف سطرت أرفع الصفحات على صفحة الزمن، وما ينبغي أن تنسى أمتنا هويتها ولا حضارتها لتعود تبعًا ذليلا لدول الطغيان والاستكبار؛ تستعبد أبناءنا وتستولي على مقدراتنا.
أيها المسلمون؛ لقد نسي الكثيرون من أبناء أمتنا الاحتفال برأس السنة الهجرية التي هي ميلاد تاريخنا وحضارتنا؛ في غمرة تقليدهم لأولئك الطغام، أولئك الغافلين الذين نظروا إلى الزمن على أنه فرصة المتعة، فقلدوهم في احتفالاتهم برأس السنة الغربية، ونسوا معنى انتهاء سنة من عمرهم، ونسوا تاريخ أمتهم وحضارتهم بانتهاء سنة وابتداء سنة جديدة. تُرى هل تستعيد أمتنا يقظتها؟ وتستعيد مكانتها بالعودة إلى رشدها؟ بالعودة إلى تعاليم دينها التي نشرت من خلالها الخير والعلم والحضارة والإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها؟
بماذا يفتقر الغرب من تاريخه؟ أبالمجازر الوحشية التي بنوا عليها دولتهم الكبرى أميركا؟ أم بتلك الأسلحة المدمرة التي قضوا فيها على مدن برمتها، ولا يزالون ينشرون شرهم وبغيهم وعدوانهم هنا وهناك؟ بماذا يفتخرون؟! أبالأسرة الممزقة المنهارة التي انهارت وانحدرت إلى القاع، إلى قعر لا نهاية له من الفساد والتفسخ؟ بماذا يفتخرون؟ بماذا يعتزون؟ لولا العلم والحضارة التي تفجرت من ينابيع حضارتنا .. لكننا عندما تركنا ديننا أصبحنا ذيلًا لهم وأصبحوا بجهلهم ووحشيتهم وتخلفهم أئمة لكثير من أبناء أمتنا. ترى هل تولد أمتنا من جديد وتُبعث لكي تعيد للإنسانية ألقها وازدهارها وحضارتها؟
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه ردًا جميلًا، وأن يعيد لأمتنا يقظة تستعيد من خلالها حضارتها ومجدها.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين


تشغيل

صوتي