مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 25/08/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: وليال عشر2 / أحكام الأضحية

وليال عشر2 / أحكام الأضحية
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول جلَّ شأنه في كتابه الكريم:ِ )بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ # وَلَيَالٍ عَشْرٍ # وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ # وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ # هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ( ويقول سبحانه: )بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ # فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ # إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ( وصح عن النبي e أنه قال: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيهنَّ خير وأحب إلى الله عزَّ وجلَّ منه في هذا العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» وقال e فيما رواه مسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلي ».
أيُّها المسلمون؛ لا زلنا نعيش متعة الموسم العظيم، موسم التقرب إلى الله سبحانه وتعالى في عشر ذي الحجة، حيث العمل الصالح بكل أنواعه فيها أحب إلى الله تعالى منها في أي أيام أخرى، وهذا يعني أن العمل الصالح فيهن ينال العبد مقابلها من ربه سبحانه وتعالى أعظم الرضى وجزيل الأجر. فكيف إذا كان ذلك في أيام الفتنة والشدة والهرج! وقد روى مسلم أن النبي e قال: "العبادة في الهرج تعدل هجرة إلي" لماذا؟ لأنها تحمل دلالة الثبات، ثبات النفس المؤمنة أمام زلازل الفتن، فلا تنال الفتن من ثباتها على نهج الهدى والرشاد، بل تزيدها يقينًا وثباتًا واستقرارا، وذلك أن الشياطين وجنودهم يحاولون في ظل الفتنة والهرج تشكيك المؤمنين بثوابت دينهم وبحقائق إيمانهم وبأحكام شريعتهم، فيكثر الهجوم على ديننا على عقيدتنا على شريعتنا في أيام الأزمات والفتن؛ بغية التشكيك في دينننا، وبغية النيل من ثبات قلوبنا ورسوخ إيماننا وهو ما أشار إليه قوله سبحانه يوم الأحزاب: )إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا # هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا # وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا( المنافقون والذين في قلوبهم مرض، والأعداء بكل ألوانهم يقولون -مشككين إياكم- ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا. ولكن ما الذي جرى؟! في موضع آخر يقول سبحانه: )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا( ويقول في مناسبة أخرى: )إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ( إذ تستغيثون! من هنا كانت العبادة في الهرج تدل على ثباتٍ في العقيدة، وعلى يقين في الإيمان وعلى تمسك بثوابت الشريعة الإسلامية، لا ننحاز عنها ولا نتأثر بنباح أولئك الذين يريدون أن يشككونا بثوابت ديننا وعقيدتنا وشريعتنا )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا #لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا # وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(. نصر الله للأمة يتم على أشكال متعددة، قد يأتي بعد التضحيات، وقد يأتي بعد الثبات. لكنه على كل حال لابد أن يأتي للذين ثبتوا على عقيدتهم وتمسكوا بشريعتهم ووثقوا بوعد الله سبحانه وتعالى.
كيف ونحن اليوم نعاني ما نعاني. ونحن في الشام التي قال فيها النبي e: «إن الله قد تكفل لي بالشام وأهله» واجهت الشام تكالب قوى الأرض كلها، فما الذي كان بعد ذلك؟ ها نحن نرى أن الشام بقيت وانهزم الكائدون لها، وها هم يتبعثرون، ويكيد بعضهم لبعض، لأنهم كانوا على باطل، ولأن هذه البلاد كانت ولا تزال مستقرة على دينها مطمئنة لوعد ربها متمسكة بشريعتها ولأن هذه البلاد قد تكفل الله بها «إن الله قد تكفل لي بالشام وأهله»
وبعد؛ فإن أفضل أيام العشر يوم عرفة وقد صح عن النبي e أنه قال: «أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة» وهذا يشمل الحاج وغير الحاج. نحن هنا إن حِيل بيننا وبين الحج إلى بيت الله الحرام، فحجنا أن نبسط الأكف إلى الله عزَّ وجلَّ بالذكر، بالدعاء، بالعبادة، بالطاعة، وقد ورد عن النبي e في الصحيح أن صيام يوم عرفة يكفر سنة قبلة وسنة بعده، وهذه جائزة عظيمة لمن خص يوم عرفة من غير الحجاج بالصيام، فكان ذلك سببا في تكفير سنة قبله وسنة بعده، يقول النبي عليه الصلاة والسلام «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعهد» وقد أوضح النبي e عن خصائص يوم عرفة أنها تشمل كل مسلم.
وأخيراً إن من أعظم شعائر هذا الموسم العظيم الأضحية، وبلدتنا المباركة هذه عرفتْ باندفاع المتمكنين ماديًا فيها لينشروا الخير والعطاء بين أبنائها، ولا سيما بين الفقراء منهم. ولقد رأيت من يضحي بالأضحية وبالاثنتين وبالعشر وبأكثر من ذلك لكي يذوق اللحم كثير ممن لا يذوقونه، وليوسع على من ضاقت بهم الحال، ولكي يوزع ابتسامة الرضى والسعادة في القلوب. نعم إن من شعائر هذا العشر المبارك الذي يعقبه عيد الأضحى وأيام التشريق: الأضحية، وقد ضحى النبي e كما روى البخاري ومسلم بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمى وكبر، بسم الله والله أكبر، والأضحية سنة مؤكدة على ما قال جمهور الفقهاء -وإن كان الحنفية قالوا بوجوبها على الغني المتمكن- إلا أن جمهور العلماء ذهبوا إلى أنها سنة مؤكدة، وشرط سنيتها القدرة المادية التي تساعد صاحبها على أن يضحي، وشرطها أن تكون –إذا كانت من الغنم- قد أتمت سنة، أو سقطت أسنانها قبل ذلك. وإن كانت من الماعز أو البقر أن تكون قد أتمت سنتين، وهي من البقر تجزئ عن سبع، وكذلك من الإبل تجزئ عن سبع، وأضحيتك تجزئ عن أسرتك كلها. وشرطها كما ذكرنا أيضا أن تكون سليمة من العيوب ليست عوراء ولا هزيلة ولا مريضة ولا عرجاء ولا مقطوعة الأذن أو أي جزء من أجزائها، ولا ذات علة تنقص من لحمها. ويبدأ وقت الأضحية من بعد صلاة العيد ويستمر إلى آخر أيام التشريق، أي رابع أيام عيد الأضحى، ويسن أن يأكل المضحي منها ولو شيء قليلا؛ ما لم تكن منذورة، أما المنذورة فلا يأكل منها هو ولا من تجب عليه نفقتهم. ويجب عليه أن يتصدق بجزء منها، وكلما زاد من التصدق منها كلما كان ذلك أعظم لأجره إن شاء الله تعالى. ويسن أن يهدي منها لأصدقائه وأقربائه وإن كانوا أغنياء، ولا يجوز، وهذا أمر يجب أن ينتبه إليه الجميع من مضحين ومن قصابين، لا يجوز أن يبيع شيئا من الأضحية أيا كان، بل يتصدق بها جميعها؛ بجلدها بأمعائها بكل شيء فيها، ولا يجوز أن يبيع شيئا منها، ولا أن يجعل أجرة القصاب جزءا منها. وهذا أمر شائع عند بعض الجهلة، وهو يحرم، يعني أنك من أجل أداء سنة ارتكبت حرامًا، لا يجوز أن يجعل أجر القصاب جزءا من الأضحية.
أسأل الله تعالى أن يتقبل منا جميعًا، وأن يجعلنا في هذا العشر المبارك من المقبولين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.
خطبة الجمعة
في 25/8/2017


تشغيل

صوتي