مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 04/08/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: الوحدة

الوحدة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(، وقال سبحانه: ) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ( ويقول جلَّ شأنه: ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( وقال جلَّ شأنه: )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(، وقال سبحانه )وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا( وروى مسلم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
أيُّها المسلمون؛ تعاني أمتنا اليوم من تشتت وتشرذم وتمزق لم يجر في تاريخها مثله، وفي الوقت الذي يبحث فيه العالم عن أسباب جمع الشمل لتحقيق مصالح دنيوية - مع اختلاف اللغة والمذهب والعرق- نجد أبناء أمتنا يمعنون في تمزيق كلمتهم مع توافر كل عوامل وحدة الكلمة فيما بينهم؛ خدمة لمصالح عدوهم. وكل مسلم صادق في دينه يبحث عن سبيل لجمع كلمة الأمة وإعادة تماسكها ووحدتها، وإذا أردنا أن نبحث عن سبيل ذلك بصدق؛ فإن ذلك إنما يبدأ ببناء الفرد بناءً صالحًا سويًا؛ عقيدةً وسلوكًا وأخلاقًا وتزكيًة لنفسه. ثم ببناء الأسرة على النهج الذي رسمه لنا ديننا، عندما أمر الزوجين بالمعاشرة بالمعروف، وأمر الأبناء والبنات ببر الوالدين، وأمر الوالدين بحسن النصح والتوجيه لأولادهم وحسن رعايتهم ) يا أيها الذين آمنوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( وكذلك أمر بصلة الرحم صلة تحفظ فيها حقوق كل من أفراد هذه الأسرة الكبيرة بحيث يؤدي كلٌ ما عليه ويتسامح فيما له وفق قوله تعالى: )وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(.
ولعل من أهم ما نحتاجه اليوم لتحقيق وحدة الأمة ودرء أسباب النزاع والشقاق فيما بينها يكمن في أمور من أهمها أمران: صلة قوية بالله جلَّ شأنه تدفعه إلى عمل الخير، وتردعه عن عمل الشر، تدفعه إلى الإحسان وتحول بينه وبين الظلم، تدفعه إلى المعاملة الحسنة الطيبة، وتمنعه من الفظاظة والغلظة وسوء الخلق. أمَّا الأمر الآخر والذي نحن اليوم بأشد الحاجة إليه بالإضافة إلى ما ذكرت، فإنه الوعي لمكائد شياطين الإنس والجن الذين يسعون جاهدين لبث أسباب الفرقة والخلاف بين أبناء الأمة. ولعل مِن حكمة ما جرى في أواخر خلافة سيدنا عثمان وخلال خلافة سيدنا علي رضي الله تعالى عنهما؛ أن ندرك ضرورة الوعي لمكائدِ مَن يرسمون الخطط لتمزيق الأمة وتشتيتها وإشاعة الخلافات فيما بينها، وأكثر ما تكون تلك المكائد مِن مندسين في الصف وهم ليسوا منه، ممن يتزيون بزي الإسلام وهم أعداء الإسلام، ممن يرسمون المكائد باسم الإسلام لتقويض الإسلام. هؤلاء هم الخطر الذي ينبغي أن ننتبه إليه.
ويمكن أن يحول بيننا وبين هذه المخاطر مخافة في قلوبنا من الله، والتزامنا بحدود الله.
ولكن ذلك لا يكفي، بل لابد أن يضيف إلى ذلك الوعي واليقظة، وإدراكَ أن المكائد التي يحيكها أعداؤنا لا تتوقف، وهي تهدف دائمًا إلى إحداث الوقيعة بين الأخ وأخيه، بين الجار وجاره. بل تحاول أن تبث أسباب الكراهية في الأسرة نفسها، هذا الأمر يقتضي أن نكون مسلحين بالوعي من مكائد أعدائنا من شياطين الإنس والجن، ألم يقل الله تعالى: )إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا( وعندما علّمنا الاستعاذة به علمنا الاستعاذة من شر الوسواس الخناس، من الجنة والناس. ومكائد المتآمرين من الناس أشد من مكائد الجن والشياطين الذين لا نراهم. شياطين الجن إذا استعذتَ بالله ولّوا فارين، ولكن شياطين الإنس يتزيون بزي الأخوة والأصدقاء، ولعلهم يتزيون بزي أهل العلم والدعاة لكي يقوضوا بناء الوحدة الإسلامية، ويثيروا أسباب الخلاف والنزاع بين أبناء هذه الأمة. لذلك كان علينا أن نكون في غاية اليقظة وفي غاية الوعي. ولابد أن نعترف من أننا بعدُ لم نصل إلى الدرجة التي ينبغي أن نبلغها في اليقظة لمكائد أعدائنا ومكرهم، وكثيرًا ما يمكن أن تزل منا الأقدام. ولكن أما قال ربنا تبارك وتعالى )إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ( يسارع إلى العودة عن خطئه، ويعود فيعانق أخاه ويصطلح معه، ويزيل أسباب الخلاف فيما بينه وبين أخيه، ولو كان في ذلك بالتنازل عن حقه. أوَلم يقل ربنا تبارك وتعالى: )ولا تسْتويْ الحسَنَةُ وَلا السَيّئةُ إدْفَعْ بالتي هيَ أحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ( أوَلم يقل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقايةً من مكر أعدائنا شياطين الإنس والجن ودرأً لعوامل التشتيت والتمزيق في صف الأمة: «صل من قطعك وأعطِ من حرمك واعفُ عمن ظلمك» عندما تكون المشكلة في البيت نفسه في المجتمع نفسه ادفع بالتي هي أحسن، وقابل الإساءة بالإحسان. ومن قطعك فصِله، ومن حرمك فأعطه، لكي تقطع السبيل على أولئك الذين يحاولون تمزيق أمتنا وتشتيت صفوفنا والإيقاع فيما بيننا.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا من التقى والوعي ما يعيد لأمتنا وحدتهم وتماسكهم وتضامنهم وتعاونهم في مواجهة أخطر ظروف تتعرض لها هذه الأمة. أسأل الله أن يردنا إلى رشدنا وإلى ديننا ردًا جميلا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة في 4 / 08 / 2017


تشغيل

صوتي