مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 07/07/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: اعقلها وتوكل

اعقلها وتوكل
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( وقال سبحانه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ( وقال سبحانه: ) فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ( روى الحاكم وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصًا وتروح بطانًا»، وروى ابن حبَّان في صحيحه «أنَّ رجلًا قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أُرسل ناقتي وأتوكل؟؟ فقال: " اعقلها وتوكل"»، وقد نقل أبو القاسم القشيري عن سهل بن عبد الله التُستري التوكل: الاسترسال مع الله- أي التسليم له- على ما يريد، وقال: التوكل على الله حال النبي ص والكسب سنة، أي لا تعارض بين التوكل والكسب، وقال: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. مَن طعن في الحركة؛ اي باتخاذ الأسباب والسعي إلى الغايات، من طعن في التوكل فقد طعن في السنة؛ لأن سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يسعى الإنسان ويتخذ الأسباب، ومن طعن في التوكل أي التفويض إلى الله فقد طعن في الإيمان.
أيُّها المسلمون؛ ثمرة الإيمان بالله والثقة بأن الأمر كله لله وبيده، والتوكل معرفة أن الله أقام الكون على نظام السببية من غير حاجة إلى الأسباب لكنه دلنا بها على عظيم حكمته وبديع تدبيره و... وجعله حجة علينا، فهو جعل الشمس ضياءً ولو شاء لحقق الضياء دون شمس، وأرسل الرياح بشرى بين يدي هطول المطر ولو شاء لأرسل المطر دون رياح ولا سحاب، وجعل المطر سببا لسقي الأرض وانباتها ولو شاء لجعل الأرض تنبت دون سقيا ولا أمطار، ولكنه أظهر ضعفنا ودلنا بمظاهر حكمته على بديع تدبيره، وجعل الدواء سببًا للشفاء ولو شاء لجعل الشفاء دون الدواء، وجعل الدعاء سببًا للاستجابة وبابا لبلوغ المقاصد وقال: )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( أي أنه جعل الدعاء سببًا للاستجابة، والله أعلم بحاجاتنا لكنه بهذا علمنا ودلنا على بديع حكمته وعظيم سلطانه وتدبيره، وأن نظام الكون مظهر لقدرته وحكمته، ودلنا بذلك سبحانه وتعالى على أنه عليم بكل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، قد أحاط بكل شيء علمًا لا تخفى عليه خافية، لكي تراقب قلبك وتعلم أنه موضع نظر الله وموضع علمه، قد أحاط بما يختلج في قلبك، أما ترى دقائق المخلوقات من نملٍ وبعوضٍ وما هو أصغر من ذلك ؛كيف أبدع خلقها وأودع فيها من الأجهزة على صغر حجمها ما أودع فيك من جهاز تنفسٍ إلى جهاز هضمٍ إلى جهازٍ عصبيٍ إلى جهاز تناسل إلى سمع إلى بصر إلى غير ذلك، أما فكرت وتدبرت في ذلك، وهذه الأشياء وأنت والنمل والبعوضة وما هو أصغر من ذلك، كل هذه الأشياء كل حركة من حركاتها إنما تتم بتدبيره وليس بتلقائية بعلمه وليست غائبة عنه بقدرته وليس من تلقاء ذاتها، هو المدبر هو الخالق هو العليم، نعم لا يتحرك ساكن ولا يسكن متحرك إلا بتدبيره، إلا بعلمه، إلا بقدرته، وبعد فمن عرف الله وعرف نفسه وما ميزه به من مقومات التكليف وشرفه به من عقلٍ واختيار وقدرات مختلفة، وأدرك بعد ذلك ما رتب على ذلك من تكليف من اعمار الأرض بمنهج الخالق وإقامة عدالته فيها والسعي لتحقيق العدل والخير ونشر الهدى، وكيف رتب على ذلك سعادته أو شقاءه وقال: )أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(، وقال: )أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(، ابتلاه بكثير من المكاره وبكثير من المرغوبات ثم رسم له طريق السعادة في الدنيا بمعرفته وهدايته وفي الآخرة بحسن عمله وتطبيقه لأوامره واجتنابه لنواهيه، إذا أردت أن تتوكل على الله صدق التوكل فاسعى إلى مرضاته بما آتاك من وسع، واسعى إلى جنته بالتزام ما قد أمرك به واجتناب ما قد نهاك عنه، فنظام السببية في السحاب والأمطار والدواء والشفاء يسري أيضًا على الدعاء والنداء ويسري أيضا على السعي إلى الجنة بحسن العمل وحسن الالتزام.
أسأل الله أن يرزقنا صدق التوكل عليه وتمام اليقين به، وأن يجعلنا من الناجين يوم نلقاه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
خطبة الجمعة في 07 / 07 / 2017


تشغيل

صوتي