مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 30/06/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: شهر رمضان يودعنا

شهر رمضان يودعنا
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ( روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ».
أيُّها المسلمون؛ مضى شهر رمضان المبارك بصيامه وقيامه، وكنَّا فيه كأننا في مهرجان تعبد. الكل، فيما أعتقد، كان يستشعر متعة هذا الشهر، متعة تلك الليالي في تراويحه، ومتعة الظمأ والجوع لينتظر المغرب ساعة الاستجابة؛ فيفطر تعبدًا كما صام تعبدًا. متعةُ المؤمن في تقربه إلى ربه، أي أن يجد قلبه لذة القرب إلى مولاه إلى ربه سبحانه وتعالى، وإذا تقرب العبد إلى الله بطاعة تقرب الله سبحانه وتعالى إليه بمِنَحِه وإنعامه؛ بأن يذيقه لذة القرب ومتعة القبول وأثر الحب الذي يعتلج في قلبه؛ فيجد في دفء ذلك الحب نشوة الحياة الدنيا والشوق إلى لقاء الله تعالى في الآخرة. أمضى المسلمون شهرًا يصومون نهاره ويقومون ليله، ولعلنا نؤكد أنَّ مِن أبرز علامات القبول أن نغدو بعده أفضل مما كنا قبله، أكثر تمسكًا، أكثر تقىً، أكثر رغبةً إلى الله . نعم، إذا كان الإنسان مخلصًا في طاعة ربه يقول الله : «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» ما أجمل أن تكون جليس الرحمن «وأنا معه إذا ذكرني» هو معك، وفي رواية أخرى «أنا جليس من ذكرني» وهل أعظم وأشرف وأمتع من أن تجالس الرحمن، عندما تناجيه وتناديه وتذكره وتحمده وتسبحه في خلوة أو في جلوة، فإن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه، وإن ذكرته في ملأ ذكرك في الملأ الأعلى بين ملائكته يباهي بك، ويثني عليك أنك ذكرته. تركت الدنيا ورغائب النفس وآثرت أن تتمتع بذكره بشكره بعبادته. فرق منك القلب، وشف منك الفؤاد، فوجدت نشوة الطاعة، ووجدت لذة العبادة، فانهمرت دموع الخشوع والحب والشوق إلى مولاك سبحانه وتعالى، لذلك يقول ربنا تبارك وتعالى في الآيات التي قرأتها في سورة الانشراح بعد ما قال )فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ( )فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ( إذا انتهيت من عبادتك؛ انتهيت ولذة تلك العبادة تنتشي بها مشاعرك ويسعد بها قلبك، فتتشوق إلى المزيد. لا تكونن في نهاية العبادة قد مللت؛ بل لتكن هذه العبادة بما تركت في قلبك من نشوة من سعادة من متعة بمناجاة الله بالمثول بين يديه بطاعته، بالتقرب إليه أن تستأنف التقرب إليه )فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ( اتعب مرة أخرى بمزيد من الإقبال على الله، وهذا تعب في ظاهره، متعة في حقيقته، نشوة وسعادة في أثره، في بركته في مشاعرك.. في الأنوار التي تغمر قلبك.. في التقى في الحب في السعادة في الحياء من رب العزة جل شأنه. عندما يتصل هذا القلب برب العزة جلَّ شأنه، ترتقي الأرض إلى السماء، ويسمو هذا العبد الضعيف بضعفه إلى مولاه تقربا وتمتعا ورضى وحبا. نعم )فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ( لم نمل؛ بل إن نشوة تلك العبادة ينبغي أن تكون قد تركت في قلوبنا متعة تشوقنا إلى الاستزادة )فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ( ارغب إليه، أقبل عليه، أقبل، فإذا أقبلت؛ «وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» رب العزة يخاطبك إن أتيته تمشي مقبلًا بأقل همة أتى إليك بكل رحمته، يقبل عليك بمغفرته، يقبل عليك بعطائه، يقبل عليك برحمته، يقبل عليك باستجابته، يملأ قلبك نورا بمقدار صدق إقبالك إليه بمقدار صدق محبتك له )فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ(. هذه بركة شهر رمضان التي أرجو الله عزَّ وجلَّ أن يذيقنا لذتها، ويجعلنا بعد الفراغ نرغب ونتعب فننتشي بتعبنا قربا إلى الله، ولذة بعبادته ونشوة بطاعته. فإذا ذكرنا بعد هذا الأمر -طبعا هناك مفسرون أكدوا هذا الأمر ولا داعي لنقل أقوالهم- كيف أيها الأخوة إذا اقترنت نهاية شهر رمضان بإشارات لطيفة طيبة مباركة إلى كشف الغمة، وزوال المحنة، واجتماع الشمل بعد تمزقه، وعودة إلى الألفة بعد الوحشة وإثارة الضغائن. كيف إذا بدأت بشائر عودة الأمن والأمان -وقد أطلت بشائرها بإذن الله تعالى- أقول: إذا بدأت فإن ربنا تبارك وتعالى يقول لنا )لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ( فإن شكرت نعمة الله على زوال الغمة وعودة الأمن وعودة مشاعر الألفة بعد الوحشة، وعودة المحبة بعد الضغينة، واجتماع الشمل بعد الفرقة؛ فاشكر الله. وشكر الله بأن نعمق تلك المشاعر وأن نزيل كل ما قد أرادت قوى الشر أن تنشره فيما بين أبناء مجتمعنا من مشاعر الكراهية والبغضاء، من سفك للدماء في سبيل ماذا؟ رأينا النتائج، ولقد أطلت نعمة الأمان مرة أخرى فلنسع إلى ترسيخها ولنسع إلى تكريسها، ولنعانق بعضنا بعد طول أحقاد وضغائن أرادوا أن يبثوها في مجتمعنا، وأرادوا أن ينشروا تلك المشاعر الخبيثة في قلوبنا، أقول: فإذا أنعم الله علينا بذلك فإن علينا أن نشكر الله على تلك النعمة، نشكره على ما أكرمنا في رمضان من إقبال على طاعته ومتعة بعبادته، فنزيد همتنا في الإقبال عليه ونشكره على تباشير عودة الأمن والأمان، وزوال الغمة وانحسار المحنة التي عانينا منها سبع سنوات أشد المعاناة.
أسأل الله أن يفرج عن الأمة فرجًا قريبًا، وأن يزيل مشاعر الوحشة والضغينة من قلوب عباده؛ ليعود مجتمعنا سعيدًا متآلفًا يأمن ويسعد وتنتشر بين أبنائه المحبة والوداد.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.
خطبة الجمعة في 30 / 06 / 2017


تشغيل

صوتي