مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 23/06/2017

خطبة الدكتور توفيق البوطي: حكمة الصوم وأحكام صدقة الفطر

حكمة الصوم وأحكام صدقة الفطر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقد من ذنبه» هذا لمن تقبل الله منه الصيام. ودليل القبول ما بيّنه قوله سبحانه وتعالى من حكمة الصيام إذ قال )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(.
أيُّها المسلمون؛ أمران أريد أن أتوقف عندهما في هذه الجمعة الأخيرة من شهر الرحمة شهر رمضان المبارك، لم يبق إلا يوم أو يومان ثم يمضي هذا الشهر، ليغيب عنا أحد عشر شهرا فيعود مرة أخرى. تُرى هل يعود فيلقانا، أم أننا نودع الدنيا قبل أن يلقانا؟ الأمر الأول: هو الوقوف عند تلك الحكمة العظيمة التي أناطها الله بعبادة الصوم فقال: )لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( والأمر الآخر هو ما يدور اليوم في المجالس وفي أسئلة الإخوة حول صدقة الفطر، مقدارها ولمن تدفع؟ وشرط وجوبها؟ وإلى ما هنالك، سأتوقف عند هذين الموضعين إن شاء الله تعالى مستلهما من الله السداد والرشد. أمَّا الأمر الأول: فلا شك أن عبادة الصوم عبادة متميزة، فرضها الله علينا في السنة شهرًا، بينما فرض الله علينا الصلاة في اليوم خمس مرات، أي أن لهذا الصوم من الأثر ما يحقق معناه في هذا الشهر المبارك، وعبر عن هذا المعنى بقوله سبحانه )لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( وقد وقفنا عند هذا المعنى في أكثر من مناسبة خلال هذا الشهر. ولابد من التأكيد على هذا المعنى، جوائز رمضان كثيرة، فمن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وليالي رمضان ليالي تقرب وتبتل وخشوع ودعاء وتضرع، يأنس إليها المسلمون ويقبلون عليها وتزدحم مساجدهم فيها، ذلك لأن لها تلك المعاني المؤثرة في القلب، والتي تحرك في وجدان الإنسان المؤمن الرغبة إلى الله ، لذلك تجد أن الإنسان في هذا الشهر يتجشم صعوبة الصوم، ولكنه يجد في ذلك لذة وسعادة، ويتحمل ويرغب أن يقوم ليالي هذا الشهر. وتجدُ الكثيرين ينتقلون من مسجد إلى آخر رغبة، في طول الصلاة. فهذا المسجد تصلى فيه التراويح بجزء، وهذا المسجد قراءته هادئة، وهذا المسجد إمامه في صلاته خشوع... تجد أنهم يتجهون إلى تلك الحدائق الغناء في هذا الشهر المبارك، أقول: جوائز رمضان في هذا الشهر كثيرة، أولها المغفرة ومن أعظمها أن أجر الصائم لا حدود له «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا الذي أجزي به» وبما أن الصوم عبادة تجسد معنى الصبر فقد قال سبحانه: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ( هذه المعاني لمن قَبِل الله صومه، ودليل قبول الله تعالى صيامنا أن تتحقق الحكمة فنغدو بعد رمضان أفضل منا قبل رمضان، أن نغدو بعد رمضان قد اكتسبنا تلك الصفة الجليلة التي جعلها الله حكمة صيام هذا الشهر فقال: )لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ذلك لأن هذا الصوم يوقظ في القلب مشاعر مراقبة الله مشاعر محبة الله، ترق الأفئدة في هذا الشهر، تلين القلوب في هذا الشهر فتخشع لذكر الله وتقبل على الله وتستشعر مراقبة الله، فإذا تحقق هذا المعنى اكتسب الإنسان المؤمن معنى التقوى، أي أن أقف عند حدود الله؛ فألتزم أوامره، أوامرَه في عباداتنا في معاملاتنا في الحقوق التي أمرنا الله عزَّ وجلَّ أن نراعيها ونحافظ عليها ونؤديها تجاه الأهل تجاه الجوار تجاه المجتمع.. هناك حقوق مادية وهناك حقوق معنوية. أن ألتزم بأدئها وأقوم بتنفيذها على النحو الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به )لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( الأمر الآخر في المقابل أن أجتنب ما نهى الله عنه. أقول: المسلم بعد رمضان أشد حرصًا على اجتناب المنهيات، مع العلم بأن شياطين الإنس في رمضان لا تصفد، بل تنطلق في الإفساد أضعاف ما كانت تفسد قبل رمضان، وتسعى جاهدة لإفساد صيامكم وإفساد أخلاقكم وتقويض بناء مجتمعكم وتدمير أسركم، من خلال تلك المسلسلات القذرة العفنة التي يبدأ بنهاية رمضان إعدادها وبرمجتها لتكون في رمضان القادم مهيأة لإفساد الأمة وتضليلها وتفسخ أخلاق أبنائها وبناتها. لذلك كنا قد نبهنا في أول رمضان أن نجعل ليالي هذا الشهر ليالي تبتل لا ليالي غفلة، ليالي تقرب لا ليالي معصية، نقول: الإنسان ضعيف قد تزل منه القدم وقد تصدر منه الكلمة التي لا ينبغي أن تصدر منه، أو النظرة التي ينبغي أن يصرفها عما قد توجهت إليه، قد يصدر من الإنسان ذلك، وكل ابن آدم خطاء لكن الصوم يحرك في قلوبنا خشية الله والعودة إليه وخير الخطائين التوابون، أن نعود إلى الله مسرعين أن نؤوب إلى رشدنا أن نستغفر ربنا، أن تنهمر الدموع في خلواتنا بيننا وبين ربنا خاشعة تائبة نادمة متبتلة متضرعة أن يغفر الله ما قد بدر منا، وأن تكون نية إصلاح النفس إصلاح َ العزم عليها. (لعلكم تتقون) تتمثل في أن نكون إن شاء الله بعد رمضان أشد حرصًا على طاعة الله والتزام بأوامره واجتناب نواهيه أكثر منا قبل رمضان. وأن يكون رمضان منطلقا في خطى إصلاح النفس وإصلاح الذات.
أقول هذا الكلام ونحن نعيش فترة عصيبة من حياة أمتنا، جنينا فيها حصادًا مرًا لأخطاء كنا قد ارتكبناها، ومخططات كنا قد وقعنا فيها. والإنسان المسلم يقظٌ واعٍ، ما ينبغي أن يقع في الحفرة نفسها ويلُدغ من الجحر نفسه أكثر من مرة. جدير به أن يراجع ذاته ويُقوِّم اعوجاجه ويصحح سلوكه ويكون أكثر يقظة للكيد الذي يكاد به وللمكر الذي يخطط له، والذي يراد منه أن ينحرف عن جادة الرشد إلى طريق الفتنة والفساد، نقول هذا الكلام وكم أفسدت الفتنة فيما بين الأخوة؛ في البيت الواحد وفي الحي الواحد وفي البلد الواحد كما ترون. أن نعود إخوة متحابين حريصين على تطبيق قوله تعالى (فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) الرحمة الإلهية لا تكون لنا بالتدابر ولا تكون لنا بالتخاصم ولا تكون لنا بالحقد والغل. بناء المجتمع يبدأ بك أنت أن تبني نفسك وتمد جسور الخير والرشد والنية الطيبة والإخلاص نحو أبناء مجتمعك نحو أسرتك نحو إخوانك وجيرانك، هذه هي النقطة الأولى التي أسأل الله تعالى أن يوفقنا لها.
أمَّا مسألة صدقة الفطر، فقد كثرت الفتاوى بشأنها، ولا يهمني ذلك. فنحن هنا نعود إلى كتاب الله وسنة رسوله وكلام الفقهاء في بيان مقدار وأحكام صدقة الفطر، أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر على الصغير والكبير والحر والمملوك» أي على المرء تجاه كل من هم في كنفه، ومن هم من أسرته الذين فرض الله عليه نفقتهم وأناط به المسؤولية عنهم، فالمرء مسؤول عن زوجته، وعن ولده من كان دون البلوغ أو بلغ وهو طالب علم ولا يزال، وعن ابنته التي لاتزال عنده حتى إذا تزوجت غدا أمرها إلى زوجها وغدت صدقة الفطر على زوجها، وكذلك الابن إذا ما استقل بأمر نفسه غدت نفقته عليه وغدت صدقت فطره عليه، هذا بالنسبة لقضية من نخرج عنهم صدقة الفطر، الأمر الآخر مقدارها: الحديث صريح وعلماء الشافعية قالوا مقدار الفطرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صاع من غالب قوت البد» عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم صاع من شعير أو تمر إنما عبر عن غالب قوت المدينة المنورة، ولذلك نجد أن ابن عمر كان يعطي زكاة فطره من التمر، فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيرا، ولم يكن غالب قوت المدينة من البُر، كان البر قوت الطبقة المترفة من أهل المدينة، لذلك ورد في الحديث ما شبع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله " كان القوت الأساسي هو الشعير ،لذلك إذا سألنا أنفسنا في مجتمعنا اليوم: ما القوت الذي ينتفع به الفقير ويتوافر في مجتمعنا؟ بلا شك هو الرز؛ لأن الفقير إذا أعطيته القمح لن يستفيد منه، لأننا لا نعطي طعاما مطبوخًا أو معدًا إنما نعطيه الطعام كما خلقه الله من بر أو تمر أو شعير أو أقط كما قال العلماء. اليوم قد يكون الرز، وعندما نقول: الرز، أي ذلك الذي يتناوله عامة أبناء المجتمع وليس الطبقة المترفة، ولا يعني ذلك أن يأتي الإنسان الغني فيخرجها من أسوأ الأنواع )أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ( هكذا يقول ربنا تبارك وتعالى، فينبغي أن يكون مما هو متوسط، وإنما تجب صدقة الفطر على من كانت لديه كفايته وكفاية أهله. والحنفية قالوا أن يكون لديه النصاب، لكن الكثير من العلماء لم يشترطوا النصاب لأن هذه الصدقة ليست تلك الزكاة التي تعيد حالة التوازن الاقتصادي بين أبناء المجتمع، صدقة الفطر هي عبارة عن تحية محبة وشعور بألم الأخ والصديق والجار والقريب، فهي بطاقة محبة بطاقة تواصل، لذلك يمكن أن يخرج الإنسان صدقة الفطر ويعطى في الوقت نفسه صدقة الفطر؛ يتبادلون تلك البطاقة اللطيفة في شهر رمضان، الكثيرون يدفعون زكاة المال، لزكاة المال أحكام أخرى، نحن الآن نتكلم عن زكاة الفطر فقط. إذاً كما في حديث البخاري صاع من شعير أو تمر لأن غالب قوتهم كان كذلك ويخرجه من غالب قوت البلد، هذا هو الأصل الذي يعتبر من المتفق عليه بين العلماء أي أن زكاة الفطر تخرج من غالب قوت البلد، يسألني الكثيرون: كم أدفع؟ -يعني من الليرات السورية- الأصل أن تدفع العين أي غالب قوت البلد، وهذا ما اتقف عليه المالكية والشافعية والحنابلة، وأجاز الحنفية أن تدفع القيمة، وعندما تدفع القيمة؛ فالقيمة خلاف الأصل، أي أن تدفع القيمة في الموضع الذي تريد أن تسدد فيه زكاة، أنا أعجب ممن قال أنه يدفع القيمة بحسب البلد الذي يعيش فيه، يعني إنسان يعيش في أوربا في الكويت ... الخ يوكل إنساناً بدمشق، الأصل عدم التوكيل، أي أن الأصل أن تدفع الزكاة في الموضع الذي أنت فيه، إذا كان هناك فقراء من المسلمين طبعا- هذا هو الأصل، فإذا خرجنا عن هذا الأصل، ولم يكن هناك فقراء أمكن أن يوكل، وعندئذٍ الأصل أن يدفع هذا الوكيل صدقة الفطر من العين من الرز أو القمح أو التمر بحسب القوت الغالب فب ذلك البلد، فإذا أراد أن يدفع القيمة فالمرجع البلد الذي تدفع فيه الزكاة. أقول هذا الكلام وأسأل الله تعالى أن يتقبل منا جميعًا، إنه سميع مجيب، ومن الممكن أن يعجل الإنسان صدقة الفطر من أول رمضان إلا أن الأفضل أن يؤخرها ليكون الفقير أكثر استفادة منها. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة في 23 / 06 / 2017


تشغيل

صوتي