مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/06/2017

خطبة د. توفيق البوطي: ليلة القدر

ليلة القدر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله في كتابه الكريم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان» أي يعتكف في العشر الأواخر من رمضان في مسجده ويقول: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» وفي البخاري وغيره عن عبد الله بن عمر t قال: «كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان» ووجد في الحديث الصحيح التمسوها – أي ليلة القدر- في السبع الأواخر من رمضان» وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بقوله: «هو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار»
عشرون يوما مضت من أيام شهر رمضان المبارك، شهر الرحمة شهر البركة، ولم يبق منه إلا العشر الأواخر ليغيب عنا أحد عشر شهرًا، لا ندري هل يُكتب لنا فسحة من العمر فنبلغه، أم يخترمنا الأجل؟ وهذا العشر هو عشر الجوائز والهدايا والأُعطيات السخية، ففيه ليلة القدر وفيه -كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم- العتق من النار، وليلة القدر العبادة فيها تعدل عبادة ثمانين سنة، أما قال ربنا وتعالى: )لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(؟ وإحياء ليالي هذا العشر أمر مطلوب وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذا العشر أكثر مما يجتهد في غيره، يضاعف فيه جهده ويحيي لياليه معتكفًا في مجسده ويوقظ أهله ليغنموا من بركاته، ولحكمة لم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم أي ليلة هي ليلة القدر من هذا العشر، إذ قال: «التمسوها في العشر الأواخر» وقال: «في الأوتار من العشر الأواخر» وقال: «في السبع من العشر الأواخر» ليستنهض همة المؤمنين في هذا العشر كله لطاعة الله والتقرب إليه، فمن أحيا ليالي هذا العشر فقد أحيا ليلة القدر ونالته بركتها وغنائمها.
أيها الأخوة، تكثر البرامج لإحياء ليلة القدر في كثير من المساجد يحيونها، فإذا تحقق الإخلاص وصرفت ساعات ليالي هذا الشهر المباركة في ألوان الطاعة؛ فذلك خير. ولو أن المرء صلى العشاء والتراويح في المسجد ثم صلى الفجر جماعة في المسجد نال ثواب وبركة إحياء تلك الليلة، فإذا ضمَّ إلى ذلك خلوة مع ربه في غرفته، يتضرع فيها إلى الله ويتبتل فيها إلى ربه، ويدعوه ويسأله ويستغفره، لاشك أنه بذلك يكون قد تحققت له فرصة الإخلاص في عمله بصورة أجلى وأكبر مما لو كان مع الجماعة في حشد مع المصلين، أقول: بارك الله بهمة من يحيون ليالي هذا العشر في المساجد، ولكن أن تخلو إلى ربك في غرفتك فتناجيه فتكون ممن وصف النبي صلى الله عليه وسلم به السبع الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ناجى ربه ليس هناك من يراه إلا الله، وليس هناك من يسمعه إلا الله، فنادى ربه بقلب منكسر مقر بتقصيره معترف بذنوبه، متضرع إليه أن يتجاوز عن تقصيره، سائلا إياه المغفرة وحسن الخاتمة، وأن يتقبل الله تعالى منه عباداته، فإن ذلك يضمن بإذن الله تعالى الكثير والكثير من القبول.
وبعد أيها المسلمون؛ لا يُحرم من هدايا ليلة القدر والعشر الأواخر مسلم أقبل على الله بصدق وإخلاص، إلا من كان معجباً بعمله، أو متكبرًا على إخوانه، أو مرائيًا بعمله يريد مدح الناس وثناءهم، أو من انطوى قلبه على حقد وغل على إخوانه. هؤلاء لن ينالوا بركة هذا العشر، كما لن ينالوا بركة إحياء ليلة القدر. كيف إذاً بمن اعتدى على إخوانه، فسفك دماءهم ظلمًا وعدوانًا، وخرَّب ودمر وعاث في الأرض فسادًا؟ لا يحرم من بركة هذه الأيام وجوائز هذا الشهر إلا من أفسد لذة التضرع والتقرب إلى الله عزَّ وجلَّ بمشاعر الحقد والعدوانية على إخوانه وسعى في الأرض خرابًا وإفسادًا، إن ثمرة صيام هذا الشهر إنما هي التقوى، والتقوى في أعظم أبوابها أن تتقي الله في أموال ودماء إخوانك فكيف ينال بركة هذا الشهر وبركة هذه الليالي المباركة من أصرَّ على استباحة دماء إخوانه وأبناء وطنه ومضى يعيث في الأرض فسادا؟ آن الأوان ليثوب أهل الفساد والقتل وتدمير الوطن وقتل أبنائه إلى رشدهم، آن الأوان، وقد فتحت الجهات المسؤولة الفرصة لذلك، وعاد الكثيرون من أمثالهم إلى الحياة الطبيعية، وقد عانقوا أبناء وطنهم ورموا بالسلاح، ورأوا أن الوئام والمحبة خير لهم من العدوان والإفساد في الأرض. آن الأوان أن يعود الجميع لربهم، الجميع... كل أبناء الأمة، أن يعود الجميع إلى ربهم تائبين من كل ذنب، نادمين من كل إثم، متبرئين من كل مظلمة، يمرغون جباههم بين يدي ربهم عزَّ وجلَّ أن يغفر لهم ما فرط منهم ويعاهدوه على إصلاح حالهم. أجل فلنعد إلى ربنا، ولنستغفر بصدق ربنا تبارك وتعالى، لنعد إلى رشدنا، لنعد إلى الصواب، لنعد إلى الوئام، لنعد إلى المحبة لنعد إلى تقوى الله عزَّ وجلَّ في عباداتنا.. في معاملاتنا، في علاقاتنا مع إخواننا أن نتقي الله عزَّ وجلَّ في الدماء، فأول ما يسأل عنه العبد غدا يوم القيامة الدماء، فليتق الله هؤلاء الذين أطلقوا العنان لأنفسهم في استباحة الدماء وتدمير البيوت والمؤسسات والمصانع وغيرها. بماذا عادوا بعد سبع سنوات من الفساد؟ وقد رأوا ما وراءهم ومن وراءهم كيف يختلفون ويتصارعون وعلامَ ومن أجل من؟ من أجل خدمة السيد الحقير الذي يتحكم برقابهم.
أسأل الله أن يعيد الأمن والأمان إلى البلاد والعباد، وأسأل الله أن يجعلنا من عتقاء شهر رمضان وممن نالوا بركة هذا العشر وبركة ليلة القدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين.
خطبة الجمعة في 16 / 06 / 2017م


تشغيل

صوتي