مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/06/2017

خطبة د. توفيق البوطي: وقفة مع عزوة بدر


وقفة مع عزوة بدر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ويقول سبحانه: )وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ( ويقول جلَّ شأنه: ) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ(.
أيُّها المسلمون؛ تمرُّ بنا ذكرى غزوة بدر أول غزوة غزاها النبي e ضد المشركين بعد الهجرة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك، وسببها أنَّ قافلة تجارية بقيادة أبي سفيان كانت في طريقها إلى مكة محملة بالبضائع التجارية، فخرج النبي e وندب أصحابه لاعتراضها، فالمشركون الذين اضطهدوا المسلمين بمكة وضيقوا عليهم حتى اضطروهم للخروج من مكة بعد أن وجدوا في المدينة بلدا آمنا يضمن سلامتهم والتزامهم بعقيدتهم ودينهم، وإنما اعترض تلك القافلة لأنَّ المشركين استولوا على بيوت المسلمين وأموالهم التي خرجوا دونها فرارًا بعقيدتهم، أرادوا أن يستولوا على تلك القافلة، والعلاقة بين المسلمين وبين أهل مكة بعد قيام الدولة الإسلامية كانت علاقة حرب، فكانت أموال الحربيين مباحة كما أنهم يستبيحون أموالنا، قدَّر الله أن يستنجد أبو سفيان بقريش، وكان يتزعمها آنذاك طاغيتها أبو جهل الذي وجد الفرصة للمسارعة لتجهيز جيشٍ لملاقاة المسلمين، المسلمون خرجوا لملاقاة قافلة، ويواجههم أبو جهل بجيش مدجج بالسلاح، عدد المسلمين لا يتجاوز أربعة عشر وثلاثمائة، بينما يبلغ عدد المشركين ألفًا، وكان من حكمة الله أن تنجو القافلة، وفي هذا يقول تبارك وتعالى: )وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ - الجيش أو القافلة- أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ –كانوا يتمنون لو أنهم حظوا بالقافلة دون ملاقاة الجيش، لكن الله قدر أمرا أعظم من ذلك بكثير- وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ( وقامت المعركة، وباختصار انكشفت المعركة بين القلة القليلة من المسلمين القليلين في عددهم وفي عدتهم، في مواجهتهم لجيش مدجج بالسلاح يبلغ أكثر من ثلاثة أضعافهم، انتهت المعركة بأن انكشف المشركون منهزمين مخلفين وراءهم سبعين جيفة من القتلى وسبعين أسيرًا في يد المسلمين. بينما نال شرف الشهادة ستة عشر صحابيًا رضي الله عنهم جميعا. تستوقفني أمام هذه الغزوة أمور ينبغي أن نتأملها، أولها: قبل أن يتوجه النبي e إلى قتال المشركين وحد أمته وجمع شتاتها، وكانوا قبائل شتى، كانوا أنصارًا ومهاجرين، والأنصار كانوا أوسًا وخزرج، وكان بين الأوس والخزرج من القتال والخلاف والخصومة ما طال أمده واشتد أواره وكثرت ضحاياه. أمَّا المهاجرون فكانوا من قبائل شتى، منهم من بني هاشم، ومنهم من مخزوم، ومنهم من بني تيم إلى غير ذلك من القبائل التي لم يكن يجمعها هي والأنصار إلا شيءٌ واحد اجتمعوا على هذا الدين )إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ -بالهداية بالإسلام- إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( جعل منهم أمة واحدة تجمعهم عقيدة واحدة آخى بينهم ربهم على وحدة العقيدة. الأمر الآخر: حقوق الأمة وسلامة الأمة، من حقها أن تدافع عنها وتحرص عليها وأن تسترد حقوقها ممن اغتصبها. الأمر الثالث: تمثل غزوة بدر مقومات النصر الحقيقية، يقول الله تعالى: )إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ( عنصران يمثلان شرط النصر، الثبات والصمود وعدم التردد، والأمر الآخر ارتباط القلوب بالله، وتعلق القلوب بالله، ذكر الله والالتجاء إلى الله بصدق، وهذا يعني الالتزام بأوامر والاجتناب لنواهيه والتمسك بحبله والإستكثار من ذكره والالتجاء إليه، وأن يتذكروا أنهم إنما يواجهون ظالماً مستكبرًا كافرًا عدوًا اضطهدهم وسلبهم حقوقهم، وقهرهم على ترك دينهم واعتدى عليهم، كان من حقهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ومن حقهم أن يواجهوا هذا العدو الشرس المستكبر بالقوة والسلاح.
والسؤال، لماذا لا تنتصر أمتنا اليوم على عدوها في فلسطين المغتصب لأرضها والمتحكم بمقدرات الأمة؟
للأسف لقد غدت أمتنا تتلقى دروس الجهاد من أعدائها، فصار الجهاد أن يقتل الأخ أخاه، والجار جاره، والصديق صديقه. هذا هو الجهاد، الجهاد بين المسلم وأخيه المسلم، لا بين المسلم والعدو الإسرائيلي. أن تفكر في قتال العدو الاسرائيلي هذا كفر في منطقهم، هذا خط أحمر، أنت عندئذٍ إرهابي عدو تجب مقاطعتك ومحاربتك وأن تُقاوم بشتى الوسائل وأن تحاصر، وأن ينالوا منك بكل الوسائل؛ حتى يحطموك ويدمروك، النبي e وحد أمته، وأمتنا اليوم تمزق نفسها ويحارب بعضها بعضا، تنفذ أوامر عدوها في أن يقتل الأخ أخاه والجار جاره، حتى غدا الصديق عدوا والعدو غدا ولي أمر، لا أقول مجرد صديق؛ بل غدا العدو ولي أمر تجب طاعته، ويجب أن ندفع الجزية له، ونقدم له كل مراسيم الطاعة بأننا طوع إرادته، وأننا كما يأمر وكما يطلب، نقاتل بعضنا كما يريد، ونتخلى عن حقوقنا كما يطلب، ونتجاوز عن حقوقنا ومقدساتنا كما يطلب، لئلا يصفنا بأننا إرهابيون، هؤلاء الذين يتحدثون بهذه اللغة هم نعال لعدوهم، هم مجرد نعال لعدوهم يدوس بها على رقاب إخوانهم.
البحث في قضية فلسطين غدا خطًا أحمر يتهم كل من ناقش فيه بأنه إرهابي، تغذى المنظمات الإرهابية علنا أو خفاء لتشوه الإسلام وتُقتِّلَ أبناء المسلمين، سلوهم هل القتال بين المسلم والمسلم، أم بين المسلم والعدو المتربع على أرض فلسطين؟ هل الجهاد بالقتال بين المسلم وعدوه، أم الجهاد بأن يأتي ويُستَورد المقاتلون من شتى أرجاء الأرض من أبناء الأمة الإسلامية أو المنتسبين إلى لإسلام ليدخلوا سورية عبر جيرانها؛ لكي يمزقوا أبناء أمتنا، ويدمروا وجود وطننا؟ أهذا هو الجهاد؟ أهذا هو الجهاد الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به؟! لكي يرفعوا عقيرتهم بأعظم شعارات مقدسة وجدت لرفع شأن هذه الأمة، ولتوحيد كلمتها، ولصيانة عزتها، ولاسترداد حقوقها، والمحافظة على كيانها، أصبح هذا الجهاد تمزيقا للأمة وتشويها لحقائق ديننا المقدسة التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ لرفعة الأمة ورفعة مكانتها.
البحث في قضية فلسطين غدا خطًا أحمر وغدا إرهابًا أما دعم العصابات المجرمة التي دخلت إلى وطننا وتنفذ الأعمال الإرهابية هنا وهناك تشويها لحقائق الإسلام وتمزيقا لمقدساته؛ هذا جهاد في منطق الغرب وأذنابه، في منطق أولياء أمورهم في أميركا واسرائيل.
أقول في رمضان يجب أن نعود إلى ربنا وأن نصحح مفاهيمنا، وأن نستذكر في غزوة بدر أنه بستة عشر شهيدا انتصر المسلمون وانتصر الحق انتصرت القلة القليلة على الكثرة الغاشمة الطاغية المستكبرة، أما اليوم فالمليار ونصف والملياران غدوا هباء منثورا، غدوا غثاء كغثاء السيل لأنهم ولَّوا على أنفسهم عدوهم وتخلوا عن أخيهم.
أسأل الله أن يردنا إلى دينه ردا جميلًا، وأن يرد العقول إلى أصحابها، وأن يرد إلينا وازع الإيمان حتى لا نغدو لقمة سائغة في فم العدو وأداة في قتل أنفسنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
خطبة الجمعة في 09/ 06 / 2017م


تشغيل

صوتي