مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 02/06/2017

خطبة د. توفيق البوطي: مدرسة الصوم


مدرسة الصوم
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ويقول سبحانه: )وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ( ويقول جلَّ شأنه: )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( روى أحمد والدرامي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي eقال: «كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر».
أيُّها المسلمون؛ لو تأملنا العبادات التي أمرنا الله عزَّ وجلَّ بأدائها وجعلها أركانًا من أركان ديننا؛ لوجدنا أنَّ لها شكلًا لابدَّ من أن نحققه، ولها معنًى هو روح تلك العبادات وسرها، وسبب بلوغ النتائج أو الآثار أو الثمرات التي تترتب عليها. فالصلاة يشترط لها الطهارة واستقبال القبلة ودخول الوقت، وغير ذلك من الشروط، وفيها من الأركان القيام وقراءة شيء من القرآن والركوع والسجود وغير ذلك، والصوم لابد فيه من النية والامتناع عن الطعام والشراب والمعاشرة الزوجية, وغير ذلك من الممنوعات, بالإضافة إلى التـأكيد على الامتناع عن الغيبة والنميمة والكذب وغير ذلك من المحظورات، والزكاة لها شروط وجوب وشروط صحة، يراعى فيها تحقق النصاب وحولان الحول فيما يشترط فيه الحول، ودفع الزكاة لمستحقيها من الأصناف الذين ورد ذكرهم في كتاب الله عزَّ وجلَّ ، إلا أنَّ وراء تلك الأحكام كلها معاني تكمن في أنَّ هذه الواجبات يجب أن نؤديها ونحن نستشعر معنى العبودية لله، معنى الخضوع لأمر الله معنى أن الله أمرنا فامتثلنا، ونهانا فاجتنبنا، وأنَّ هناك علاقة بيننا وبين ربنا تبارك وتعالى تتمثل في منهج حياة؛ من مقوماته هذه الصلة بين العبد وربه من خلال هذه العبادات التي أمرنا الله سبحانه وتعالى بها، لكي تؤدي هذه العبادات نتائجها وآثارها في حياتنا وسلوكنا، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. المرء عندما يصلي يتصل قلبه بالله ويقف بين يدي الله، ويعلن الخضوع من خلال ركوعه وسجوده لأمر الله، ليجسد بذلك معنى العبودية لله سبحانه وتعالى والخضوع لأحكامه والإخلاص له. وهذا الأمر أمرٌ وجدانيٌ قلبيٌ ينبغي أن يكون حيًا في قلوبنا نستشعر به في عباداتنا وشعائرنا التي نؤديها. والصوم عبادة ربنا ربط تبارك وتعالى بينها وبين أثرها الذي ينبغي أن يكون ثمرة تترتب عليها عندما يقول ربنا تبارك وتعالى ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( الثمرة هي أن يصبح الإنسان تقيًا، أي يلتزم حدود الله عزَّ وجلَّ فيؤدي أوامره ويجتنب نواهيه. وكذلك بالنسبة للزكاة هي شكلٌ؛ أدفع المال عند بلوغه النصاب للمستحقين، ولكن له معنًى آخر، بالإضافة إلى كونه يعيد حالة التوازن الاجتماعي فيما بين طبقة الأغنياء والفقراء، وفيه مواساة للفقير وتطهير لقلب الغني من آفة الشح والأنانية والأثرة، وتطهير لقلب الفقير أيضًا من مشاعر الحقد والحسد عندما ينظر إلى أخيه الغني وهو يتمتع بالمال والرفاهية وغير ذلك، بينما هو محروم من الحد الأدنى من تلبية احتياجاته، الزكاة تغسل قلب هذا وذاك من كلا الحالتين اللتين وصفت. هناك معنًى في هذه العبادات هي أنها صلة بين العبد وربه، وأنها توقظ في مشاعر هذا الإنسان مراقبة الله عزَّ وجلَّ وطلب رضاه وطلب المثوبة منه.
وأقف عند العبادة التي نحن اليوم نتمتع بشعيرتها، ونعيش في ظلال بركتها، ألا وهي شعيرة الصوم. الصوم في الحقيقة عبادة متميزة بدليل أن النبي e روى عن الله عزَّ وجلَّ قوله سبحانه «الصوم لي وأنا الذي أجزي به» الصوم لي أي أن الصوم يتمثل فيه معنى الإخلاص، وأن الله تعالى يتولى المكافأة عليه دون حساب، دون أن يخضع للمعايير التي تخضع لها بقية العبادات، يقول ربنا تبارك وتعالى: «الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه لأجلي، والصوم جُنة» يحفظ صاحبه عن بقية الآثام عن بقية الذنوب، يحفظ صاحبه من الوقوع في المنكرات؛ لأنه يوقظ في قلب الإنسان الصائم مراقبة الله عزَّ وجلَّ ، الصوم يجسد معنى الإخلاص في حياة المسلم، قال: «يدع وطعامه وشرابه وشهوته من أجلي» لله سبحانه وتعالى، يأتي كما يأتي في كل يوم إلى بيته والظمأ يستبد به، والجوع قد بلغ منه مبلغه، لا يمنعه من أن يأكل أو يشرب إلا حبه في الله وطاعته لله ورغبته في رضاء الله عزَّ وجلَّ ومخافته من عقاب الله عزَّ وجلَّ ، فهو يتقرب إلى الله ويستشعر أنَّه إذا لم يكن الناس يرونه فإن الله يراه، كما قالت تلك الجارية: (إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا) أجل، الصوم يوقظ في القلب معنى مراقبة الله عزَّ وجلَّ في كل لحظة من لحظات نهارك. لذلك هو دورة تدريبية على معنى مراقبة الله عزَّ وجلَّ في سائر جوانب سلوك شخص الإنسان ونشاطاته وعلاقاته، فإذًا هذا هو المعنى الأول، والمعنى الثاني هو أن الصوم يتجلى فيه صبر المؤمن، والصبر قوة إيجابية في شخصية الإنسان المؤمن، تمده بقوة العزيمة بقوة الإرادة في مواجهة مصاعب الحياة، وفي مواجهة مغريات الحياة، هو يصبر عن شهواته عن رغباته مستشعرًا مراقبة الله له، أنَّه إن عصى رآه ربه سبحانه وتعالى فيستشعر الحياء من الله ويستشعر المخافة من الله عزَّ وجلَّ، ويدرك أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. الصوم يوقظ هذا المعنى في قلب الإنسان المؤمن، فيكون سببًا في صبره عن مشتهياته، ويوقظ هذا المعنى ويقوي عزيمة الرشد وإرادة الالتزام في شخصية الإنسان المسلم عندما تشتد رغبته إلى الطعام والشراب، وإلى المفطرات التي اعتاد أن يمارسها في حياته العادية لكنه أمسك عنها وامتنع عنها مع شدة الرغبة إليها والحاجة إليها ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجلَّ، فإذا كان يمسك عن الطعام والشراب والمشتهيات ابتغاء مرضاة الله عزَّ وجلَّ؛ فأجدر به أن يمسك عن اللقمة الحرام، وعن الكلمة الحرام وعن النظرة الحرام وعن التصرف الحرام. أجدر به أن يكون حي القلب يراقب رضا الله عزَّوجلَّ في جميع جوانب سلوكه وتصرفاته وأعماله. نعم، هذا الصبر يقوي عزيمته لكي يواجه الابتلاءات التي يتعرض لها، نحن اليوم نعيش ابتلاءات، شبابنا يعيشون ابتلاء اثارتهم نحو المغريات، فيمسكون عنها كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام: «القابض فيهن على دينه كالقابض على الجمر» لكنه يمسك بهذا الجمر متمسكًا متشبثًا بهذه الجمرة جمرة الإيمان، لكي ينال عند الله عزَّ وجلَّ الفوز والنجاة، ولكي ينال عند الله عزَّ وجلَّ الرضا والمثوبة، يمسك بتلك الجمرة ولن يتخلى عنها لكي يحظى غدًا يوم القيامة برضا الله عزَّ وجلَّ. يتعرض للتحديات يتعرض للاستهزاء يتعرض للاضطهاد، يتعرض لكثير من المصاعب ولكنه يصبر على ذلك كله، إرادة قوية استمدها من عون الله عزَّ وجلَّ، فالذي صبر عن طعامه وشرابه ومألوفاته التي كان يمارسها في كل حياته؛ هو عن تلك المنكرات التي حرمها الله عزَّ وجلَّ أشد إمساكًا عنها وحذرًا منها وتجنبًا لها، هذا ما ينبغي أن تثمره عبادة الصوم في حياتنا، فهو ليس عبارة عن حمية غذائية نمارسها؛ إنما هو عبارة عن عبودية لله عزَّ وجلَّ توقظ في قلوبنا معنى مراقبة الله وطلب رضاه والحياء منه والمخافة من عقابه.
الصوم مدرسة تدرب العبد على تلك المراقبة، فتبلغ به درجة التقوى التي تتمثل في اجتناب المناهي وفعل الواجبات والالتزام بحدود الله عزَّ وجلَّ في سائر جوانب الحياة، ثم إنَّ هذا الصوم عندما يستشعر صاحبه، وقد صار أميل إلى وقت المغرب وقد استبد به الجوع والعطش؛ ينبغي أن يوقظ في قلبه الشعور وهو ينتظر الطعام عما قريب، الشعور بألم الجوع لأولئك الذين لا ينتظرون الطعام، أولئك الذين استبدت بهم الحاجة واشتد بهم الجوع دون أن يكونوا مترقبين لمائدة عامرة بعد ساعة أو ساعتين. ينبغي أن يكون الصوم إيقاظًا لمشاعرنا بألم ذلك الفقير؛ ليثير بمشاعرنا هذه الرحمة به، ودوافع البذل له والمساعدة له؛ لكي ينال هذا الإنسان برفقه بأخيه الفقير الأجر العظيم، من أجل كل هذه الأشياء كان الصوم لله وهو الذي يجزي به، وهذا ينسجم مع الآية القرآنية الكريمة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالى: )إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ( إنَّ علينا اليوم أن نجسد في صيامنا هذه المعاني، كما أن علينا ونحن نعيش مهرجان رمضان في لياليه صلاة التراويح، وفي نهاره الصيام، وفي سائر أوقاته حوافز البذل والعطاء للفقراء، أن تستشعر معنى مراقبة الله عزَّ وجلَّ في ذلك كله، ورجاء أن يفرج الله تعالى عن هذه الأمة وأن يكشف عنها من المحن والبلاء مالا يكشفه عنها إلا هو.
أقول: إننا، ولله الحمد، نعيش في بلد أبناؤه على الرغم من كل ما أصابهم متراحمون متعاطفون. لديهم من حوافز البذل والعطاء ما نرى الكثير من آثاره، ولكن ذلك كله إنما هو في نسبة ليست كبيرةً من أبناء بلادنا، ينبغي أن تصبح هذه الظاهرة – ظاهرة التراحم والتعاطف والبذل والرفق والرحمة- أن تصبح ظاهرة شاملة لأبناء أمتنا، لكي تكون بإذن الله تعالى سببًا لكشف الغمة عن أمتنا، وستنكشف الغمة بمقدار ما يتحقق فينا الصيام الصحيح. الأمة الصائمة هي الأمة التي يتراحم أبناؤها، الأمة الصائمة هي الأمة التي تقف عند حدود الله، الأمة الصائمة هي التي تنبذ مؤامرات الذين يريدون إفساد صومكم وحجبكم عن ربكم بما يبثونه في الشاشة هنا وهناك من برامج تفسد حياتكم وتدمر أسرتكم وتفسد أخلاق شبابكم، أجل ينبغي أن نكون أشد تجنبًا منها، وأكثر حذرًا من هذه المخططات التي وراءها أصابع من صنع بنا الأزمة التي نعيشها، فهم الذين يصنعون لنا تلك المسلسلات تلك المعروضات التي إنما يُبتغي بها تقويض البناء الأخلاقي والاجتماعي لأمتنا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه ردًا جميلًا وأن يفرج عنا فرجًا قريبًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
خطبة الجمعة في 02/ 06 / 2017م


تشغيل

صوتي