مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 26/05/2017

خطبة د. توفيق البوطي: بين يدي شهر رمضان


بين يدي شهر رمضان
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون( ويقول سبحانه ) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( وروى البخاري عن ابن عباس t قال: «كان النبي e أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان لأنَّ جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله e القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» وروى ابن حجر في المطالب العالية عن سلمان الفارسي t قال: خطبنا رسول الله e في آخر يوم من شعبان فقال: « يا أيُّها الناس، قد أظلكم شهرٌ مبارك، فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، فرض الله فيه صيامه، وجعل قيام ليله تطوعًا، فمَن تطوع فيه بخصلة من الخير؛ كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضةً كان كمن أدى سبعين فريضة –أي من حيث الأجر- وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، وهو شهر يُزاد فيه رزق المؤمن، مَن فَطَّر فيه صائمًا كان له عِتق رقبة ومغفرة لذنوبه، قيل يا رسول الله ليس كلنا نجد ما نُفَطِّر الصائم، قال: يُعطي الله هذا الثواب مَنْ فَطَّر صائمًا على مِذقة لبن أو تمر، أو شربة ماء، ومَنْ أشبع صائمًا كانَ مغفرةً لذنوبه، وسقاه الله مِن حوضي شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا حتى يدخل الجنة، وكان له مثل أجره مِن غير أنْ ينقص مِنْ أجره شيئًا، وهو شهرٌ أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، مَنْ خَفف فيه عن مملوكٍ أعتقه الله من النار».
أيُّها المسلمون؛ هذا الشهر المبارك له من الخصائص والمزايا ما قد لا يتسع المقام لعرضها وتفصيلها، ولكني أقف عند بعض تلك الخصائص.
هذا الشهر شهد في عهد النبوة أعظم انتصارين للمسلمين على أعدائهم، غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون على الرغم من قلة العدد والعدة، وفتح مكة التي عادت بها مكة إلى سيطرة المسلمين، وإلى ظل حكم الله Y ورعايته، بعد أن كانت عاصمة الكفر ومنطلق الوثنية. أهم انتصارين في حياة البعثة النبوية كانا في هذا الشهر المبارك، مما يعني أن هذا الشهر هو شهر الحركة لا شهر التثاؤب والتقاعس والكسل والنوم، شهرٌ أُنجزت فيه الانتصارات وتحققت فيه معالي الصفحات في تاريخنا الإسلامي، ولو استعرضنا لوجدنا أن انتصارات أخرى جرت في شهر رمضان، ولعل من أبرزها في تاريخنا الغابر معركة عين جالوت، ولا يتسع المقام لعرض ذلك كله، ولكن ينبغي أن نعلم أن هذا الشهر هو شهر الانطلاق، شهر العمل والسعي والجهاد، وشهر تتم فيه أعظم الإنجازات. والذي نؤمله من رحمة ربنا تبارك وتعالى وصدق نوايا المسلمين فيه إن صدقوا في نيتهم -وأرجو أن نكون صادقين- أن يحقق الله لنا في هذا الشهر الانتصار على الفتنة التي دمرت البلاد وسفكت دماء العباد.
الأمر الآخر من خصائص هذا الشهر أنه مدرسة الصبر، والصبر ليس استكانة، الصبر ثبات، الصبر قوةٌ إيجابيةٌ تجعل المرء يثبت في مواقف الحق والخير. لا يجبن ولا يتردد ولا ينهزم، يتحمل ويتجشم المصاعب والمخاطر ويقتحم كل ذلك في سبيل تحقيق الهدف العظيم الذي يصبو إليه.
رمضان شهر الصبر، أجل ففيه يصبر الصائم على جوعه وعطشه، وعن كثير من مشتهيات نفسه، يصبر عن شهواته فيمتنع عنها ليكون بعد رمضان أشدَّ امتناعًا وأكثر حزمًا في ضبط نفسه عنها، شهر الصبر على المصاعب التي تعترض الإنسان المسلم في هذا الشهر من ابتلاء ومحن وشدائد، فإذا كان يصبر على جوعه وعطشه وهما أهم حاجتين في حياته؛ فهو عن كثير مما تشتهيه نفسه، وعلى كثير مما قد يعترضه من المصاعب والشدائد والمحن أكثر صبرًا إن شاء الله تعالى.
الأمر الآخر الذي ينبغي أن ندركه من معاني هذا الشهر، أنه شهر التراحم والتعاطف والبذل والسخاء، فلقد مرَّ بنا قبل قليل حديث النبي e الذي رواه البخاري أنه كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، يبذل الكثير كأنه الريح المرسلة، وقد ربط الصحابي الجليل ابن عباس t بين أمرين بين مدارسة جبريل عليه الصلاة والسلام للنبي e القرآن الكريم وبين هذا الجود، بمعنى أنه كلما كانت صلتنا بالقرآن أوثق وأقوى؛ كان اندفاعنا إلى البذل والعطاء أكثر، لأن يقيننا عندئذٍ سيكون بالله أعظم، وثقتنا بأنه ما نقص مال من صدقة أكبر. نحن اليوم ينبغي أن نعنى بهذا الجانب، فالأمة اليوم في محنة، والناس في ضائقة، ولذلك فإنه يجدر بأبناء أمتنا أن يكونوا أكثر بذلًا وأكثر إحساسًا بآلام بعضهم، وهذا الشهر يوقظ مشاعر الرحمة ويدفع بصاحبها –إن كان صادقًا في صومه- إلى البذل والسخاء والعطاء، وليُعلم أنه ما نقص مال من صدقة، وأن الله سبحانه وتعالى يضاعف لك الأجر ويبارك لك في الرزق ويعوض لك ما أنفقت، وقد يعوضه أضعافًا مضاعفة، وهذا الشهر أيضًا شهر القرآن )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ( هذا الارتباط بين هذا الشهر وبين نزول القرآن الكريم ينبغي أن يدفع بنا إلى مضاعفة الهمة في تلاوة القرآن، لا هذرمةً بل تدبرًا. أي أن نجلس في مجالس القرآن الكريم في بيوتنا وفي مساجدنا وحيث كنا؛ نتلو القرآن ونجتهد في اتقان ضبط تلاوته وتدبر معانيه، فهو غذاء القلوب، وهو غذاء العقول، وهو نظام الحياة، وهو أساس الإيمان وقاعدة ومرتكز اليقين بالله عزَّ وجَلَّ. إذا أردت أن تغذي إيمانك فعليك بكتاب الله، وإذا أردت أن تمسح آلام نفسك عن نفسك فعليك بكتاب الله، وإذا أردت حالة من الطمأنينة تنسكب في مشاعرك وقلبك ووجدانك فعليك بكتاب الله مع التدبر والتأمل، واتقان التلاوة بلا شك لأن الله عزَّ وجَلَّ فرض علينا أن نرتل القرآن أي: أن نضبط تلاوته بالشكل الصحيح.
وبعدُ أيُّها المسلمون؛ بعد كل هذه المعاني أتوجه بالكلام إلى الأمة عامة وإلى أولئك الذين شهروا السلاح في وجه بعضهم وفي وجه إخوانهم، أما آن الأوان أن تستيقظ قلوبهم وعقولهم ويعودوا إلى رشدهم ؟ أما آن الأوان أن يغمدوا السلاح ويعانقوا إخوانهم ويعودوا إلى الرشاد وحقن الدماء، ويدركوا أن رفع السلاح في وجه الإنسان المسلم أمر من أعظم الكبائر في ديننا؟ أما آن الأوان أن يتضح للجميع أن ما يجري في بلادنا إنما هو مخطط لتمزيقه وإضعافه وقتل أبنائه بيد أبنائه؟ أما آن الأوان أن ندرك أن الذين كانوا يؤججون نار الفتنة في بلادنا هذه – وكلكم تعرفونهم- أما آن الأوان أن تدركوا أنهم خونة وأدوات رخيصة خانعة للعدو في تدمير بلادنا وبيع مقدساتنا والتخلي عن واجب حماية هذه الأوطان وهذه البلاد؟ سمعتم ورأيتم.
أما آن الأوان أن ندرك أن ما يبذلونه للتحريض على تمزيق هذه البلاد إنما هو خدمة للصهيونية وخدمة لأسيادهم الذين استعبدوهم؟ أما آن لنا أن نستيقظ وندرك أنه ليس وراء ذلك حرية ولا إصلاح، وإنما هو تدمير وإفساد؟
على الذين حملوا السلاح في وطنهم ضد وطنهم أن يدركوا أنهم إنما كانوا أدوات غافلة عن الحقيقة، عن حقيقة ما يراد لبلادهم، وأن الأمر كله إنما هو لخدمة ذلك العدو المتربع على أرض المسجد الأقصى ينتهك حرماته وأرض فلسطين يستولي على أرضها ويقتل أبناءها. ليراجعوا أنفسهم وليجعلوا من رمضان فرصة للتوبة والعودة إلى الله، والعودة إلى طريق الرشاد، فإن اليوم عمل ولا حساب، ولكن غدًا حساب ولا عمل، وإذا ندموا فلات ساعة مندم.
خطبة الجمعة في 26/ 05 / 2017م


تشغيل

صوتي