مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 19/05/2017

خطبة د. توفيق البوطي: على أبواب شهر رمضان /2/


على أبواب شهر رمضان /2/
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ # أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ # شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ #وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان؛ فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»، وروى الشيخان أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، والصيام جنة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط، فإن سابَّه أحد أو شتمه فليقل: إني امرئٌ صائم»، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ صَام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم مِن ذنبه، ومَنْ قَامَ ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا غُفرَ لهُ مَا تقدمَ مِنْ ذنبهِ»، وروى البخاري أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَنْ قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لهُ مَا تقدمَ مِنْ ذنبهِ»
أيُّها المسلمون؛ نحن مقبلون على شهر رمضان بعد غياب أحد عشر شهرًا، فينبغي أن نحسن الاستعداد لاستقباله، ولعله فرصة قد لا تتغير في حياة المرء مرة أخرى بعد هذا العام، فما يدري المرء متى يكون أجله، وحسن الاستعداد لاستقبال هذا الشهر يكون بأمور متعددة لعل من أهمها مجالس العلم التي تفقهنا بأحكام هذا الشهر، أحكام صيامه وآداب صيام هذا الشهر وشروطه، ومفسدات الصوم وما يتعلق به من أمور فقهية يجب أن نتعلمها، فحسن الاستعداد يقتضي منا أن نكون متعلمين متفقهين بأحكام هذا الشهر بدقة كاملة، ولعل المرء خلال عام مضى ينسى بعض الأحكام لذلك فمن المهم أن نلازم مجالس العلم التي يمكن أن تزودنا بمعرفة تلك الأحكام والشروط والآداب، الأمر الآخر هو التوبة إلى الله عزَّ وجَلَّ بشروطها وقد ذكر النووي أن شروط التوبة ثلاثة فيما يتعلق بحقوق الله، أولها: الإقلاع عن الذنب، ثم الندم على فعله، ثم العزم الصادق على عدم العود، وإذا هذا الذنب كان متعلق بحقوق العباد فأن نرد الحق لصاحبه، هذا الأمر –صدق الاستغفار والتوبة إلى الله عزَّ وجَلَّ - يقتضي منا تبرئة ذمننا فيما يتعلق بحقوق الله وفيما يتعلق بحقوق العباد، فأن أسعى جاهدًا لتبرئة ذمتي من صلاة فاتتني من صيام فاتني من زكاة لم أسددها من أمور أسأت فيها علي أن أستدرك فأتوب وأندم وأصحح ما أفسدت وأرجع إلى نهج الصواب والسداد، هذا فيما يتعلق بحقوق الله، أمَّا فيما يتعلق بحقوق العباد؛ فهي كما هو معلوم حقوق مادية وحقوق معنوية، الحقوق المادية يجب أن تُرد إلى أصحابه، لابدَّ أن تُرد الحقوق إلى أصحابها، سواء كان غصبًا أو كان حقًا أنكره، أو كانت ديونًا تناساها أو كانت ودائع أودعت عنده فلم يحفظها، عليه أن يبرئ ذمته تجاه هذا الأخ الذي وثق به أو الذي فرَّط بحقه أن يعيد الحق لصاحبه، يبرئ ذمته لأن بقاء تلك الحقوق لا يمكن أن يتجاوز الله عنه بحال من الأحوال حتى يسامحه صاحب الحق، ويمكن أن يبدي مَن ضاقت به يده إلى صاحب الحق فيقر له بحقه ويعده أنه إذا تمكن أن يسدد الحق الذي عليه، ويستسمحه، ويبدي ندمه وأسفه الصادق من التعدي الذي ارتكبه، وكذلك الأمر بالنسبة للحقوق المعنوية من غيبة ونميمة وشم وإساءة وقطيعة وهجر، سواء لجار أو لقريب أو لصديق أو لغيرهم أن أبرئ الذمة من الحقوق المتعلقة بها تجاه إخواننا، هذا أمر مهم في حسن استقبال شهر رمضان، لأن الإناء القذر لو وضعت فيه خير الطعام أفسدته، فينبغي أن نطهر الإناء لتحل هذه الطاعات والأنوار في إناء نظيف وفي وعاء طاهر، هذا الوعاء هو قلبك هو صحائف أعمالك وهذا أمرٌ من الأهمية بمكان، و الأمر الآخر هو فيما يتعلق بقلب الإنسان المؤمن، الله تعالى يقول: )وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ( وَبَاطِنَهُ ظاهر الإثم: المعاصي المتعلقة بالجوارح سواء كان تعديًا ماديًا أو غيبة أو نميمة أو غير ذلك، أمَّا باطن الإثم فهو الحقد والحسد والرياء والكبر والعجب، هذه الأمراض التي تفتك بدين المرء أشد من فتك المعاصي المادية أو المحسوسة، لذلك عليه أن يجاهد في معالجة هذه الأمراض التي في نفسه التي يعاني منها في وجدانه ونفسه، والسبيل إلى ذلك هو الالتجاء إلى الله وكثرة ذكر الله وأن يدرك أنه عبدٌ فقير لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورا، وأن منزلته عند الله عزَّ وجَلَّ يوم القيامة إنَّما يحددها مدى صفاء سريرته، وإخلاص وجدانه، هذا الذي يحدد إمكان قبوله عند الله عزَّ وجَلَّ ، ونحن مكلفون بأن نعالج تلك الآفات القلبية، فكم من إنسان صلُح ظاهره لكنه كان يرائي الناس بذلك، فعمله مردود على صاحبه، وكم من إنسان وجد لنفسه علوًا وتفوقًا وفضلًا على إخوانه، أي صفة فيك أنت لا تملكها، هي من فضل الله عليك، لذلك اتق الله في النعمة التي أنعمها الله عليك ولا تُعجب بها و لا تستكبر بها فالذي منحك قد يمنعك، وقد يحرمك، لا تتكبر بعلم فقد يُنسيك الله ذلك العلم، ولا تتكبر بمال فكم من صاحب مال تجرد عن ماله في لحظة واحدة، ولا تتكبر بسمعة تتمتع بها، كل ذلك آلاء ونعم أحاطك الله بها ليستر فسادك، احمد الله أن لم يكشف عورة أخلاقك ومساوئ جبلتك استغفر الله وعد إليه، سله أن يستر ما خفي من عيوبك واستغفر من تلك الأمراض والتجئ إليه أن يطهر قلبك من تلك الأوصاف، هذا من الضرورة بمكان في حُسن الاستعداد لاستقبال هذا الشهر لأن هذه الآثام الحسية والمعنوية، وآثام الجوارح وآثام القلب قد تحجب قلبك عن أنوار الفضل الإلهي، وقد تكون سببًا في الحرمان وعدم استجابة الدعاء، أمَا قال في آخر آيةٍ من صفحة الصوم )وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ( استجب لله في تطهير نفسك وقلبك في أن تدع ظاهر الإثم وباطنه لتكون محل عناية الله وفضل الله وإحسان الله ونعم الله وحفظ الله، نحن اليوم أيها المسلمون بحاجة شديدة مُلِحَّة إلى رحمة الله، إلى الفرج، إلى رفع هذه الغمة عنا، إلى كشف هذا البلاء عن بلادنا وعن أمتنا وليس من سبيل إلى ذلك سوى صدق الالتجاء إلى الله وصدق الإنابة إلى الله، صدق الإنابة إلى الله سبيل الاستجابة، سبيل الوصول إلى ما نبتغي، هذا بالنسبة للاستعداد قبل أن ندخل شهر رمضان، أمَّا إذا دخل شهر رمضان فينبغي أن نستذكر أمورًا أخرى، الأمر الأول: الصوم كما تعلمون إمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من المعاشرة الزوجية وغيرها، وهذه الأمور التي نصوم عنها هي في الحالة المألوفة أو الحالة العادية هي من المباحات، فالطعام مباح، والشراب مباح، ومعاشرة الزوجة مباح، لكنها في رمضان نمسك عنها، فإن كنا نمسك عن المباحات فأجدر بنا أن نمسك عن المحرمات، أن نمسك ألسنتنا عن الغيبة والنميمة والكذب وإيذاء الآخرين، أن نمسك جوارحنا عن سائر المعاصي التي تتعلق بالكسب وما أكثرها، والمعاصي التي تتعلق باللسان وشتى وجوه الإيذاء باللسان واليدي وغيرهما، أن نمسك عن ذلك كله، فالصيام صيام عن المباحات وصيام من باب أولى عن المحرمات، وليس هذا في رمضان فحسب، بل في رمضان وسائر الأيام، لكن شهر رمضان يذكرنا بضرورة الإمساك عن مخالفة ومعصية الله جلَّ شأنه، الأمر الآخر: الحرص على عبادات هذا الشهر، الصوم أمر مفروغ من وجوبه ولا شك في مطالبتنا لأنفسنا وفي مطالبة ربنا لنا، كتب عليكم الصيام.. من الأمور التي ينبغي أن نحرص على التقرب إلى الله عزَّ وجَلَّ بها في هذا الشهر قيام رمضان أي صلاة التراويح، صلاة التراويح أمرٌ مهم ومن الضرورة بمكان الحرص عليها، وثمة لغط يدور حول هذه المسألة صلاة التراويح هي ثمان ركعات، صلاة التراويح هي عشرون ركعة، تصدير هذا الكلام انطلق من جهة معينة معروفة تريد إثارة البلبلة بين المسلمين، مع أن الحرمين الشريفين يتمسكوا أئمتهما بعشرين ركعة في رمضان وثمان في آخر الليل يسمونها قيام رمضان أو التهجد، أي بثمان وعشرين ركعة تضاف إليها ثلاث ركعات الوتر، هذه الصلاة ليست فريضة، لكن الحرص عليها أمرٌ من الأهمية بمكان، فنحن هذا موسمنا، وهذه فرصتنا وهذا هو سوق التجارة الرابحة قد فتحت أبوابه وعرضت بضائعه وما علينا إلا أن ننهل من هذا الموسم العظيم وبركاته وعظيم مرابحه ومكاسبه، ثم إن المرء له أن يصلي عشرين ركعة، وله أن يزيد تهجدًا، وله أن يقتصر على ما ساعده عليه جسده وأعانته عليه طاقته، هذا هو المطلوب من غير عزيمة، هكذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم رمضان، أي ليست فريضة، لكن همة الإنسان المسلم في هذا الشهر الذي يُضاعف فيه الأجر- في بعض الروايات- سبعين ضعفًا؛ يجدر بنا أن لا نفوت الفرصة ولا نخسر هذه التجارة الرابحة، أما هذا الكلام الفارغ من أن صلاة التراويح هي ثمان أم عشرون، صلي ما وسعك، والصلاة خير مشروع، وأجمع أئمة المذاهب الأربعة أن صلاة التراويح عشرون ركعة بأدلتها التي استدلوا بها، لكن إن شئت أن تصلي ثمان عشر ركعة فلك ذلك، أو عشر ركعات فلك ذلك، لكن لا تقل إنها ثمان ركعات، لأن الحديث الذي ورد في ذلك هو لا يتعلق برمضان، هو يتعلق بصلاة الوتر التي ما زاد النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة في صلاة الوتر، صلاة التراويح صلاة خاصة بهذا الشهر، لكن الناس يريدون أن يثيروا من هذه المسألة لغطًا لا مبرر له ولا مسوغ له، يصرفون بذلك الناس عن طاعة الله عزَّ وجَلَّ وعن عبادته، الأمر الآخر: الله تعالى أشار إلى أهمية الربط بين شهر رمضان والقرآن، شهر رمضان الذي .. فإذا كنت لك ورد من القرآن في هذا الشهر فضاعف هذا الورد وزد في نشاطك فيه، ضاعف همتك وأقبل على الله بمزيد من الهمة في تلاوة القرآن مع التدبر، ومن أجمل ما يمكن أن يكون في هذا الشهر أن تعقد مجالس القرآن التي يستطيع الإنسان أن يقوم قراءته من خلالها، فنحن اليوم كثير منا لا يتقن تلاوة القرآن، ونحن مكلفون أن نرتل القرآن ترتيلا، هكذا أمرنا ربنا تبارك وتعالى، أي أن نأتي بتلاوته على الوجه الذي كما تلاه رسول الله وكما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وكما أنزله الله عزَّ وجَلَّ ، مع المحافظة على مخارج حروفه ومدوده والوقف الابتداء وغير ذلك، الأمر الآخر الذي ينبغي أن نهتم به كل الأهمية هذا شهر الرحمة والراحمون يرحمهم الرحمن، هذا شهر ينبغي أن تضاعف همة العباد فيه في التراحم والتباذل والعطاء، ولعلنا في هذه الظروف التي نعيشها الظروف الصعبة القاسية التي يعاني فيها الناس الشدة والفاقة والضنك؛ نحن اليوم ينبغي أن نضاعف همتنا في الاستكثار من الصدقات والبذل والعطاء وشامنا ولله الحمد تهتم بهذا الأمر، وكرام الناس يضاعفون جهودهم في هذا ويبحثون عن المستحقين وينفقون المال هنا وهناك، ولكن علينا جميعًا أن نرحم فقراءنا والمعوزين ومن ضاقت بهم سبل المعيشة، فنخفف عنهم من الأسعار والأجور، وأن نبذل لهم ما وسعنا من العطاء والخير، فنحن ينبغي أن نضاعف همتنا في الاستكثار من الخيرات والمبرات في هذا الشهر والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا، فرج الله كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر أخاه المؤمن في الدنيا ستره الله في الآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
خطبة الجمعة في 19/ 05 / 2017م


تشغيل

صوتي