مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/04/2017

خطبة د. توفيق رمضان البوطي: الإسراء والمعراج



الإسراء والمعراج
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( وروى مسلم في صحيحه أن النبي e ذكر قصة اسرائه ومعراجه، وفيه: أنه أُتي ليلة ذاك بالبراق فركبه بصحبة سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام، حتى أتى بيت المقدس، ثم دخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جاءه جبريل بإناءين، إناء فيه خمر، وإناء فيه لبن، فاختار الإناء الذي فيه اللبن، فقال: اخترت الفطرة، ثم عرج به إلى السماء، حتى بلغ السماء الدنيا فاستأذن، ثم السماء الثانية، فالثالثة وهكذا، ولقي في السماء الدنيا سيدنا آدم عليه الصلاة السلام، وفي الثانية سيدنا عيسى وسيدنا يحيى عليهما الصلاة والسلام، وهكذا حتى بلغ السادسة فلقي فيها سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، ثم في السابعة رأى سيدنا إبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، ثم عُرج به إلى سدرة المنتهى، حيث لم يصل إلى ذلك المكان غيره e وهناك فرض الله سبحانه وتعالى عليه وعلى أمته خمسين صلاة في اليوم واللية، فلما رجع إلى موسى قال: سل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فمضى يسأل الله تعالى التخفيف، وظلَّ يسأل الله سبحانه وتعالى التخفيف حتى بلغت خمس صلوات، فجعلهن خمس صلوات في اليوم والليلة، ولكن أجرها بخمسين صلاة. وفي اليوم التالي حدث النبي e الناس بما جرى له، فكذبه مشركو قريش وسخروا منه، حتى سأله أحدهم أن يصف لهم بيت المقدس، وسواريه وأقواسه، وكأن النبي e مضى إلى بيت المقدس في رحلة سياحية، لكن الله عزَّ وجل أسعفه فأظهر له أمام عينيه صورة بيت المقدس فصار يصفه لهم وصفًا دقيقًا مفصلًا، ولما جاء أبو بكر بادروه بعجيب كلام النبي e الذي اضطرب له إيمان البعض ممن كان إيمانهم ضعيفًا، قال: إن كان قال ذلك فقد صدق. هذا هو إيمان سيدنا أبي بكر، ثقة مطلقة وإيمان مطلق بما ثبت عن النبي e.
هذه الحادثة العجيبة لها معانيها التي يجب أن نقف عندها بتأمل، وقد لا يتسع المقام للوقوف عند جزئياتها، لكن يجدر أن لا تمر بنا مثل هذه الذكرى دون تأمل لهذا الحدث العظيم الذي جرى للنبي e. أقف أولًا عند الظروف التي أحاطت وتقدمت حادثة الإسراء والمعراج، فقد توفي أبو طالب الذي كان يدافع عن النبي e وتوفيت في السنة نفسها زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت تخفف عنه وطأة الاضطهاد التي كان يتعرض له، وتعينه على الثبات في الموقف، فهي الزوجة الوفية، لكنه افتقدها في أشد مرحلة من مراحل دعوته في الفترة المكية، حتى سمي ذلك العام عام الحزن، وهذان الحدثان جرأا مشركي مكة على النبي e وأصحابه كما لم يكونوا يتجرؤون من قبل فاشتدَّ إيذاءهم وتضاعف اضطهادهم وتكذيبهم وإساءتهم للنبي e ففكر النبي e أن يبحث فيه لنفسه عن مكان يتابع فيه الدعوة لله عزَّ وجل، فاختار الطائف حيث تقيم هناك قبيلة ثقيف، فوصل إلى الطائف فإذا هو فيها كالمستجير من الرمضاء بالنار، استقبله أهل الطائف- والعرب معروفون بكرم الضيافة- إلا أن هذا الكرم كان منكساً عند أهل الطائف، استقبلوه أسوأ استقبال، استقبلوه بالسخرية والتكذيب والطرد، ولم يكتفوا بذلك بل سلطوا صبيانهم وسفهاءهم عليه، فطاردوه بحجارتهم حتى شج رأسه، وأرهقه ما أصابه وأصيب بحالة من الأسى والحزن، حتى أوى إلى ظل حائط- بستان- لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهناك رفع يديه إلى الله عزَّ وجل ضارعًا يقول: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى عدوٍ يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري" ثم يقول: "اللهم إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى" هذا الدعاء الضارع الذي اهتزت له السموات أعقبه نزول ملك الجبال بصحبة سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النبي e ليعرض عليه: إن شئت يا محمد أطبقت على قريش الأخشبين- الجبال المحيطة بمكة- فقال: "لا، بل أرجو أن يأتي من أصلابهم من يؤمن بي فيدخل الجنة" هذا رسول الله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، ثم أكرمه الله أيضًا بإسلام فريق من الجن، أسلم أثناء عودته من رحلته هذه، ثم دخل مكة بجوار المطعم بن عدي، وتابع عمله الدعوي، وتابع صبره على وطأة الاضطهاد والتعذيب والإساءة والسخرية التي واجهه بها مشركو قريش. في أعقاب هذه الأمور التي أصابت النبي e أكرمه الله عزَّ وجل بمعجزة الإسراء والمعراج التي ذكرت لكم طرفًا مختصرًا عنها، هذا هو الإطار الزماني لحادثة الإسراء والمعراج، وكأن الله سبحانه وتعالى قال له: لئن ضاقت بك الأرض رحَّبت بك السموات، وآفاق الأرض كلها إن ضاقت فأرجاء السموات تتسع لهمّك، بل تكون فيها معززًا ومكرمًا.
لكن الذي يلفت النظر هنا، أن الله عزَّ وجل أنزل فرائضه وشرائعه كلها من السماء إلى الأرض، نزل بها جبريل فبلغها النبي e إلا الصلاة، فالصلاة بالذات رقى بالنبي e إلى سدرة المنتهى ليوحي إليه بفرضيتها عليه وعلى أمته، وهذه إشارة عظيمة إلى جليل قدر أمر الصلوات الخمس، وأنها إذا صلحت بكل المعايير صلح من الإنسان كل شيء، وإذا لم تصلح لم يصلح منه شيء. أهمية الصلاة أنها هي أول شيء يحاسب عليه الإنسان المسلم من حقوق الله، هذا ما نص عليه النبي e وربنا تبارك وتعالى يقول في كتابه: )إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ( وعندما بيّن سبب عذاب الناس في جهنم، قال: )مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ( ذكروا أول ذنبٍ كان سبب دخولهم نار جهنم: )قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( هذا أمر الصلاة الذي يجب أن نقف عنده وقفة من الاهتمام بشأنها والحرص على اتقان أدائها، فربنا ما قال لنا صلوا، بل قال: أقيموا الصلاة، والإقامة إتقان العمل والثبات عليه.
الأمر الآخر الذي أقف عنده باختصار، هذا التباين في الموقف من ذكر النبي e للحادثة التي جرت له الليلة، بين مكذب مستهزئ متعجب، وبين مصدقٍ موقنٍ مسلّم، هنا أريد أن أشير إلى أمر مهم، مسألة المعجزة؛ عرف العلماء المعجزة بأنها أمر خارق للعادة يجريه الله تعالى على يد نبي من أنبيائه ليكون دليلًا على صدق نبوته. الإسراء والمعراج بلا شك معجزة، لكن النبي e لم يُرِهم إياها، إنما رواها لهم، ومن ثَمَّ فإن الإشكال حول قضية المعجزة وأنها دليل، لا يبدو هنا، وإنما يبدو أثر الإيمان الأصلي في القلب، إن كنت مؤمنًا بالله عزَّ وجل أيقنت بوعد الله وأيقنت بكل ما ثبت لي من عند الله ومن عند رسوله e أمَّا إن كان إيماني بالله عزَّ وجل وإيماني بالرسول وإيماني بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، إيمانًا مهتزًا مضطربًا؛ فإن ذلك سينعكس عليَّ بالشك والتردد إزاء كثيرٍ مما وردنا عن الله سبحانه وتعالى، هناك أمور يجب أن نقف عندها ونوقن بها ونعمل بمقتضاها. أخبرنا رسول الله e عن أحداث هذه الأمة في هذا الزمان، ولئن تأملتَ أشراط الساعة وما أمر النبي e به الأمة إ رؤية بعضها، لوجدت أننا بحاجة إلى مراجعة مدى ثقتنا وإيماننا بالله وبرسوله وبسنته، إنَّ الذين أصروا على أن يوغلوا في مداخل هذه الفتنة مع وضوح الأحاديث النبوية الشريفة التي أوضحت طبيعة فتن هذا العصر، وأمرتنا بالالتزام بالحدود والضوابط الشرعية إزاءها، مشكلة هؤلاء أصلًا ضعف إيمانهم بالله ورسوله، سيدنا أبو بكر t عندما قيل له إن النبي e يقول كذا وكذا، قال: إن كان قد قال فقد صدق، أيقن مباشرة، ونفذ مقتضى هذا الأمر لأنه كان على يقين من أن محمداً بن عبد الله نبي من عند الله، يأتيه الوحي من عند الله، ولن يختار الله لرسالته إلا صادقًا مصدوقًا، فكانت الثقة المطلقة وكان اليقين المطلق وكان التنفيذ الأتم لمقتضى هذا الإيمان، ومقتضى ثبوت ما ورد عن النبي e إزاء ذلك. المعجزة أمر خارق للعادة، تُرى العادة أليست معجزة، شروق الشمس وغروبها أليس بمعجزة؟ خلقك، بصرك وسمعك وخلايا جسمك وخلايا دماغك أليست بمعجزة؟ لعل الإنسان لو تأمل لوجد أنَّ التكوين الذي أبدعه الله عزَّ وجل في جسمه هو أعجب من معجزة الإسراء والمعراج، اليوم الإنسان يطير بالطائرة من دمشق إلى جُدَّة -قرب مكة- بساعتين فما العجيب إذا كان الإنسان قد وصل إلى ذلك أن يكرم الله خالقُ الإنسان نبيَه بذلك! المعجزة هي خلاف المألوف، لكن المألوف هو أعجب من المعجزة، إذا نظرت في خلق السموات والأرض، في الشمس والقمر وانتظام الفصول الأربعة بالنسبة لأقطارنا وبلادنا، وانتظام الليل والنهار على هذا النحو الدقيق العظيم، هو أعجب من معجزة الإسراء والمعراج. معجزة الإسراء والمعراج خرق للمألوف، لكن المألوف لو تأملته لوجدت دلائل قدرة الله وعظيم حكمة الله عزَّ وجل بصورة أوضح وأجلى منها في معجزة الإسراء والمعراج. لكن المشكلة تكمن في أنك تؤمن برسول الله أو لا تؤمن، تؤمن بالله أو لا تؤمن. هذه المسألة الثانية في أمر المعجزة، اليوم كثيرون قد يعجبون وقد لا يثقون بما قد يتحدث إليهم الإنسان عن إمكان نصرة الله وتأييده لعباده، أقول: مجريات الأحداث في بلادنا هي بحد ذاتها معجزة، بلد بحجم بلدنا يتعرض لهجوم كوني شرسٍ على النحو الذي نرى وتمر السنوات والبلد لا يزال مستقراً على الرغم من الأحداث الجسيمة التي تدور فيه، أقول هذا بحد ذاته معجزة، تصدّق حديث رسول الله e:"إن الله تكفل لي بالشام وأهله" إنها معجزة. المسألة لا تكمن في دعم فلان أو خذلان فلان، أو دعم الجهة الفلانية أو خذلان الجهة الفلانية، المسألة تكمن في أن تواطؤاً عالمياً مضى عليه ست سنوات ونيف، ومع ذلك نجد أن الأحداث على جسامتها لا تيسر لهم تحقيق أهدافهم وتحقيق آمالهم. فكروا في حجم المؤامرة وفي عدد الذين جندوا لتنفيذها وإحاطتنا بالعدو من كل جانب ثم صمود وثبات واستقرار أمرنا على النحو الذي نرى، على الرغم من كل ما يحيط بنا من خطر.
أمرٌ آخر هو هذا الارتباط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى والذي ترسخ من خلال العهدة العمرية عندما فتح رضي الله عنه بيت المقدس، جاء لأن قساوسة بيت المقدس لم يرضوا بتسليم مفاتيح بيت المقدس ولا بالاستسلام لأبي عبيدة بن الجراح ولغيره من القادة، ولا للجيش الإسلامي، إلا للخليفة ذاته، ويأتي عمر t بيت المقدس على دابة واحدة هو وغلامه، فتارة يركب هو ويمشي غلامه، وتارة يركب غلامه ويمشي هو، لابسًا مرقعته، لكي يصل إلى بيت المقدس فيسلَّم مفاتيحه، ويصل بيت المق


تشغيل

صوتي