مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 31/03/2017

خطبة د. توفيق البوطي: التقوى


التقوى
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( ويقول جلَّ شأنه: ) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ( وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود t أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّها ستكون بعدي أثرة، وأمورٌ تنكرونها، قالوا يا رسول الله: كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال: يؤدون الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا»، وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: اتقوا الظلم، فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإنَّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا أعراضهم»
أيُّها المسلمون؛ أنزل الله تعالى إلينا هذا الدين وهذه الشريعة لتكون منهج العدالة والإحسان في المجتمع الإنساني، وعهد بتطبيقها إلى الإنسان ليمارس بذلك وظيفته القدسية؛ خلافة الله في الأرض، وجعل من العبادات زادًا يرُسِّخ في القلب مراقبة الله وخشيته، وفي السلوك يُرسِّخ فيه معاني حسن الخلق والتعامل، ليتمكن بذلك من تجاوز سلطان النفس والهوى على سلوكه وعلاقته مع الآخرين، ولو تأملنا العبادات لوجدنا أنَّها مرتبطة بهذا المعنى، فربنا تبارك وتعالى يقول عن الصلاة، )إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ( ، ويقول عن الصوم: ) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(.، والتقوى هي الالتزام بأوامر الله في حقوق الخلق وحقوق الخالق، والاجتناب عن منهياته في حقوق الخلق وفي حقوق الخالق، وعندما قال عن الزكاة قال: )خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( تزكي هذه النفوس من الشح من الأثرة من الأنانية من الطمع، هذه معاني العبادات ومقاصدها، ليست العبادات أشكالاً وطقوس نؤديها ميتة على أشكال؛ بل إنها معاني، إنها إصلاح للنفوس، وتوطيد للإيمان، وصلة ما بين العبد وربه، ينبغي أن يكون الإنسان بعد صلاته خير منه قبل صلاته، لأنه في صلاته يقول: )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ # اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ( وهذا بمثابة عهد، أني يا رب سأطيعك وأنصاع لأوامرك وألتزم حدودك، ولقد نهيتني عن الظلم، فها أنا ذا ملتزمٌ بالكف عن الظلم، وأمرتني بالإحسان فها أنا ذا ملتزم بالعمل بمقتضى الإحسان، هذه هي مقاصد العبادات، والصوم كذلك أمره، والزكاة كذلك أمرها، والحج حديثٌ حوله يطول، لكننا إذا تأملنا واقعنا على مستوى العلاقات الفردية، وعلى مستوى العلاقات العامة؛ سنجد ما يؤسف له، نجد أن في الناس مَن قد يتقدم إلى الصف الأول في المسجد في الصلاة، ولكنه لا يتورع عن الكذب في حديثه والغش في معاملته والإخلاف في مواعيده، ولا يتورع عن أكل أموال الناس بالباطل، ومن عجبٍ أنَّه قد سئلت خلال هذه الفترة القريبة عن مسائل كلها يتظاهر المرء فيها بالتدين والصلاة والعبادة والكلام المعسول؛ ليجعل من ذلك فخًا يوقع به أصحابه، فيأكل أموالهم ويستولي على حقوقهم، لا يخشى ربًا ولا يراعي خلقًا ولا صداقةً ولا التزامًا، هذا نسي أنَّ الله تعالى يراه، ألم يعلم بأن الله تعالى يرى، وأنه مطلعٌ على ما يفعل، وأنه ما يلفظ من قولٍ أو يتصرف من تصرفٍ إلا وسجل في صحائف أعماله؟! أكل أموال بالباطل سمومٌ تجري في جسده وفي جسد أسرته، ونارٌ تحرقه غدا يوم القيامة، ولعله يستطيع أن يصل إلى مبتغاه إذا ما اشتكى صاحبه للقضاء، فالقضاء يمكن أن يرُشى ويمكن أن يخدع، ويمكن أن تكون عبارة المحامين خادعة له، وبذلك ينجو من قبضة القضاء ومن سطوته، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في هذه المسألة – وهو النبي- : «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من نار»، النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن قضائه: إنما أنا بشر، في مجال القضاء يمارس القضاء بصفته البشرية قاضيًا، وأنَّه يتعرض لما قد يتعرض له أي قاضٍ، ومن ثَمَّ فإنه قد يلبس من يعرض قضيته أمامه « فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من نار»، يقول الجأ إلى القضاء وهو مستعد أن يدبر أمره في القضاء، أنت مستعد أن تخدع القاضي ولكنك لن تستطيع أن تخدع من خلق القاضي، لن تستطيع أن تفلت من زمام جريمتك ومن عواقب جريمتك غدًا عنما يقول رب العزة : )وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ( )الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ( جعلوا من التدين وسيلة لخداع الناس والتلبيس عليهم، ومطية للوصل إلى ثقتهم، ومن ثَمَّ أكل أموالهم ظلمًا وعدوانًا، هذا أمرٌ ولأسف شاع في مجتمعنا وانتشر على نطاق يؤسف له، أين أنت من وقفة بين يدي الله عزَّ وجل في صلاتك وأنت تقول: إياك نعبد وإياك نستعين؟ أنت تعاهد الله على أن تكون خاضعًا لأمره، أين أنت وأنت تركع لتقول: أنا يا ربي خاضعٌ لحكمك، أين أنت وأنت تسجد وأنت تقول بلسان حالك أنا خاضع لحكمك!! ثم تخدع الناس وتأكل أموالهم، وتستولي على حقوقهم، وتخدع القضاء، أو تسلك المسالك الفاسدة في القضاء، القاضي إنسان من الناس، منهم الصالح ومنهم الطالح، منهم الأمين ومنهم من ليس بالأمين، لا تظننَّ أنَّ قضاء القاضي يجعل من الحرام حلالًا، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من نار»، فكيف ببقية الناس من القضاة وغيرهم!! لا يخدعنَّ أحدٌ نفسه، اليوم عمل بلا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، عندما تبرد أطرافك وتتحشرج أنفاسك بين حناياك، وتجد الموت قد تسلل إلى جسدك عندئذ عد إلى نفسك وقل يا ليتني، لو أنني، أين لو ؟؟؟ لو، كانت تجدي عندما كنت على قوة وبأس، لو، كانت تجدي لو أنك تبت وندمت على أكل أموال الناس بالباطل، أما أن تستقوي بالمخادعين وبغيرهم لتستولي على حقوق الناس فهذا يعرضك للكثير في الدنيا وفي الآخرة، هذا على نطاق العلاقات الفردية، أما على نطاق العلاقات العامة، على نطاق المجتمع؛ فإننا نقول الأمر أخطر، إنَّ كثيرًا ممن يمارسون استباحة الدماء والأموال اليوم -للأسف- من أدعياء التدين، هنا أريد أن أقول كلامًا دقيقًا: ما يجري في بلادنا؛ نعم برز على أفواه بعض منتسبي العلم والتدين، ولكن الذي يجري ليس من المتدينين، فيهم الملحد وفيهم الساقطة، وفيهم العلماني وفيهم, وفيهم، ولكن بما أن الذين رفعوا عقيرتهم وارتضوا أن يكونوا غطاء لهذه الفتنة، وغطاء لهذه المشكلات التي تجري، هم من منتسبي الدين والتدين أرادوا بذلك أن يكون هذا سبةً للانتساب للدين، فكانت جريمتهم جريمتين، جريمة ممارسة الأمور المخالفة في حق هذا المجتمع من أكل أموال واستباحة أعراض وسفك دماء، وجريمة أخرى هي أن ينسبوا هذا إلى الدين، يعطون صفة دينية، وهي جريمة أسوأ من الجريمة الأولى، إن سفك الدماء من أعظم الجرائم، وإن الاعتداء على أموال الناس وحقوقهم من أعظم الجرائم، وإن قصف الآمنين بالقذائف بين ساعة وأخرى من أعظم الجرائم إلا أن تغطية ذلك بغطاء ديني هي جريمة أبشع وأسوأ وأفحش، أن ننسب هذه التجاوزات غلى الدين هي جريمة خطيرة، هي خدمة لأولئك الأوغاد في اسرائيل وأمريكا لتشويه الإسلام
أقول لهؤلاء وأولئك: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، ونقول: البر لا يبلى والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، ابن آدم اصنع ما شئت، كما تدين تدان.
خطبة الحمعة في 31 / 03 / 2017م


تشغيل

صوتي