مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 24/03/2017

خطبة د. توفيق البوطي: الدعاء مخ العبادة


الدعاء مخ العبادة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ( وقال سبحانه وتعالى يصف زكريا عليه السلام وأسرته: )إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ( ومن دعاء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: )رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ( وقال سبحانه: )فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ورى الترمذي عن النبي e أنه قال: «الدعاء مخ العبادة» وفي رواية: «الدعاء هو العبادة» وروى الترمذي وغيره عن النبي e أنه قال: «سلوا الله من فضله فإن الله عزَّ وجل يحب أن يُسأل، وأفضل العبادة انتظار الفرج» وروى مسلم عن أبي هريرة t أنَّ النبي e قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» وروى الشيخان أنَّ النبي e قال: «يستجاب لأحدكم مالم يعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي».
أيُّها المسلمون، نعيش أيامًا صعبة، وتمر بنا أحداثٌ جسام، هذه الأحداث الجسام ينبغي أن تُقابل بأمرين اثنين، مواجهتها بجرأة وصلابة وثبات وقوة، والأمر الآخر، هو الالتجاء إلى الله عزَّ وجل والتضرع إليه أن يفرج عنا، وأن يكشف عنا هذا العدوان القذر الذي تمالأت فيه قوى البغي والعدوان والطغيان في الأرض ضد بلادنا وضد أمتنا. والمسلم يدرك بعقيدةٍ جازمة بأنَّ الأمر كلَّه بيد الله، وقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أنَّ الأمر كله لله، فما قدره الله تعالى كائن ومالم يقدر لن يكون، ولله سننٌ أقام الكون عليها، انتصر المسلمون في بدرٍ وأُصيبوا في يوم أحد، والنبي e بينهم، وقد تمرُّ بنا أيامٌ تزدهر فيها بلادنا واقتصادنا وأحوالنا، وتمرُّ بنا ظروفٌ أخرى لأسباب وفق سنن إلهية تضيق فيها بنا الأمور ويشتد بنا الكرب، ويشتد علينا العدوان والطغيان، ولله تعالى سنن وقواعد أقام الكون عليها، ومِن سننه التي أخبرنا بها، أنَّ وظيفة العبد أن يلتجئ إلى الله عزَّ وجل ويتضرع إليه، وأنَّ الدعاء بابٌ من أبواب الخير. ووعد العبد فيما إذا أخلص في الدعاء له؛ أن يستجيب له، فقال )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ( اللهم إذا كان الدعاء قد استوفى شروطه، روى مسلم والبيهقي عن النبي e أنه قال «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، قال:) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ( وقال: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ( ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب، يارب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وقد غذي بالحرام فأنَّى يستجاب له» الدعاء له شروط، لكي يكون مستجاباً لا بد أن نستوفي شروطه، ولعل من حكمة الله تعالى أن يبتلي العبد بشيء من الشدائد ليدرك أمرين، أولا: أن الدنيا ليست دار نعيم، وإنَّما هي دار امتحان فما قد يجده من رخاء فهو ليشكر، وليستعين بذلك الرخاء على ما كلف به، وما يجده من شدة فليصبر ولِيُدرك أنَّ الدنيا ليست مستقرًا، وأنَّ له ربًا يجب أن يلتجئ إليه ليكفيه شدة الابتلاء، أمَّا دار النعيم فهناك، هناك بعد الموت بعد أن نسدد أقساطها ونؤدي مستلزماتها، لمن تزود لها سيلقى ربه وقد أكرمه بالنعيم.
أيُّها المسلمون، ما نمر به من شدائد ليس أمرًا مألوفًا، لكنه لا يخرج عن السنن الإلهية، فقد اعتدنا على حياة الرغد، واعتدنا على عيشٍ فيه نعيم، ثم إنَّ هذا النعيم قد أصابه كفران، وأُصبنا فيما أصبنا به بانحراف عن النهج الذي يحب أن نسلكه، وتآمرت دول البغي علينا فانساق البعض وراء المؤامرة، فتمزقت الأمة وتشرذم الناس حتى غدا الأخ يكره أخاه. هذا الوضع ليس وضعًا مقبولاً في ميزان ربنا، ولذلك لابد أن يُذَّكر الإنسان بما يعيده إلى رشده ويوقظه ويرده إلى صوابه، ويأتي الابتلاء ليبين للناس حقيقة الذي يجري، وأنَّ الأحداث التي تجري ليست لهثًا وراء الحرية ولا خطةً من أجل الإصلاح، وإنما الذي يجري، يجري ليُدمَّر به بلد ولتقتل به الأمة، ليدرك الناس أن ما يحيط بنا أمر خطيرٌ جدًا، وأن علينا أن نُحَكّم نصوص الشريعة في مواقفنا، وأن لا ننطلق من أهوائنا ونزواتنا، وأن لا نغمض العين عن الضوابط الشرعية التي ينبغي أن نضبط بها تصرفاتنا، فأصبنا بما أصبنا به. وكلكم يرى ويشهد مدى تكالب قوى الشر والبغي والعدوان على أمتنا على بلادنا، إزاء هذا الأمر استنفرت الأمة لمواجهة الخطر الداهم الذي مضى عليه ست سنوات وهو يعيث في الأرض فسادًا، أما آن لنا أن نستيقظ؟ إننا ينبغي أن نواجه هذه المحنة التي تمر بها أمتنا وتمر بها بلادنا بما أمرنا الله عزَّ وجل أن نواجهها به، فلقد قال لنا )فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ( الدعاء وحده لا يكفي، لأن ربنا تبارك وتعالى يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( لابد من أن نصمد في وجه هذه المؤامرة، ولابد أن نثبت في وجه خلط الأوراق الذي يتم من حولنا، من أجل أن يقضى على بلادنا، وما نراه في إخواننا هو أمر نراه في أنفسنا، فما جرى ويجري في ليبيا؛ جرى ويجري فينا، فهل تحقق الإصلاح في ليبيا، وهل تحقق الإصلاح في غيرها، هل تحقق الإصلاح في اليمن؟ هل تنفس الناس الصعداء وغدوا في حالة رخاء بعد تلك الصيحات الغوغائية التي انبعثت من هنا وهناك، أم أنَّ الأمر آل إلى أسوأ مما كان، نحن اليوم مطالبون بالأمرين، الثبات على حماية هذه البلاد وحماية هذه الأمة من الخطر الذي يستهدفها، والدعاء الذي نتضرع به إلى الله عزَّ وجل لإخوانٍ وأبناءٍ لنا هم الآن يواجهون الخطر، يواجهون فناء البلاد أو بقاءها، فناء الأمة أو بقاءها، أن تتفاقم الأمور في بلادنا وتتفاقم حتى تنهي مالم ينته من بلادنا بعد، نحن اليوم بحاجة إلى عوامل الثبات على ما يمكن أن يُبقي علينا حقوقنا وكرامتنا وبلادنا وأرضنا وأبناء أمتنا، وأن نواجه هذا الخطر أيضا بأن نبسط الأكف إلى الله عزَّ وجل ضارعين إليه بأن بفرج عنا، وأن يكفينا هذا الشر الذي يطوف بنا، وأن يعيد الأمن والأمان والسلامة والطمأنينة إلى البيوت إلى الأهلين إلى المدن إلى القرى. هذا الذي يجري ليس صيحات داخلية؛ هو تدبير خارجي، وكلكم يعلم ذلك فقد اتضحت الصورة ولم تعد غائمة.
أيها المسلمون، وعد الله المسلم أن يستجيب له دعاءه عاجلًا أو آجلًا، قد يؤخر الاستجابة إلى وقت هو أحوج إليه فيها، فلا ينبغي لليأس أن يتسلل إلى قلوبنا، بل يجب أن نكون على ثقة بربنا. كل الذي علينا أن نكون حيث أمرنا ربنا تبارك وتعالى بأن نتضرع إليه واثقين به، وهذا كان شأن الأنبياء، فزكريا وأسرته كانوا يسارعون في الخيرات ويدعون الله رغبا ورهبا، والنبي e وأصحابه أمضَوا ليلة غزوة بدر بالدعاء والتضرع إلى الله عزَّ وجل حتى إنَّ أبا بكر


تشغيل

صوتي