مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 17/03/2017

خطبة د. توفيق البوطي: الاستخفاف بحرمة الدماء


الاستخفاف بحرمة الدماء
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ( ويقول سبحانه: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا( ويقول سبحانه: )مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا( وروى الشيخان عن عبد الله بن مسعود t قال: قال رسول الله e: «أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة الدماء» وروى مسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص t أنَّ النبيَّ e قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم» وفي رواية: «لزوال الدنيا أهون على الله من دم سفك بغير حق» وروى ابن ماجة عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله e: من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله عزَّ وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» وروى الحاكم والنسائي وأبو داود وابن حبَّان عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله e يقول: «كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركًا، أو قتل مؤمنًا متعمدًا» وروى البخاري عن النبي e قال: «من قتل معاهِدًا – أي مواطنا غير مسلم- لم يُرَح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عامًا» هذا إن كان غير مسلم، فكيف بمن قتل المسلمين!!
أيُّها المسلمون، سلامة الأمة وديعة استودعها الله عباده، وسلامة الأمة بسلامة أفرادها، وقتل الإنسان أكبر عند الله من هدم الكعبة، وإنَّ أعداء الأمة ليبحثون عن سبيل يمزق الأمة ويشيع الفتنة بين أفرادها، وأقذر سبيل لتمزيق الأمة، وإشاعة الفتنة بين أبنائها؛ هو الاستخفاف بحرمة الدماء، والذي يؤدي إلى أسوأ النتائج من تيتيم للأطفال وترميل للنساء ونشر للأحقاد. وقد كان من أبرز مظاهر الفتنة التي اكتوت بها بلادنا؛ الاستخفاف بحرمة الدماء حتى وصل بنا الحال إلى ما ترون وتسمعون. ترى لمصلحة مَن يُقتل من يقتل دون جريرة؟ وقد روى ابن حبَّان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري أنَّ رسول الله e قال: «يكون بين يدي الساعة – أي من علامات يوم القيامة- الهرج، قالوا يا رسول الله وما الهرج، قال: القتل، قالوا أكثر مما نقتل، قال: إنه ليس من قتلكم المشركين، ولكن من قتل بعضكم بعضا، قالوا: ومعنا عقولنا؟ قال: إنه لتنزع العقول من أهل ذلك الزمان» وهذا الحديث مروي من طرق كثيرة. وسبب تفشي القتل يتمثل في عدة أمور: أولها الجهل بشرع الله الذي حرم قتل النفس بغير حق، وتوهُّمُ أنَّ هذه الجريمة قُربة إلى الله، بينما هي سبب لسخطه وعقابه، الأمر الآخر: فتاوى شيوخ الفتنة المضللين لأتباعهم المرتهنين للمخطط الأجنبي الذي يستهدف بلادنا وأمتنا، والأمر الأخطر من ذلك: أنَّ ما يجري إنَّما يتم بمكيدة رسمها أعداء الأمة.
أيها المسلمون، أياً ما كان فإن الذي يجري فينا إنَّما هم بسبب ذنوب ارتكبناها، فسلط الله علينا شرارنا تأديبًا لنا، ولا مخرج لنا من ذلك إلا بتوبة صادقة، وتحكيم قواعد الشرع الحنيف في تصرفاتنا، والوعي للمؤامرة؛ الوعي الذي يكشف لنا أنَّ ما يتم إنَّما هو مؤامرة قذرة طرفاها خاسران، وأنَّ مقتضى العقل والشرع والخلق أن يدرك الجميع أنَّ ما يتم نفق مظلم أدخلنا فيه التآمر بأدوات ارتضت أن تكون في خدمة هذه المؤامرة. ماذا حصد الحمقى من السير في هذه الطريق الخطأ سوى ضياع الوطن وسفك الدماء وتشرد أبناء الأمة، وسعادة العدو وطمأنينته. أمَا كان الوقوف عند حدود الله، وتعاليم رسول الله e أجدى لنا للوصول إلى سلامة الأمة وسلامة البلاد، إنَّهم لم يعد أمر الأمة والوطن مهمًا لديهم، إذًا فعليهم أن يُدركوا أن ما توعد الله به القتلة المجرمين أمر خطير، وأنهم لا مفر لهم من ذلك المصير.
أيها المسلمون، ينبغي أن ندرك جيدا أن الذي يتم في بلادنا أنه إنما يتم بخطة خبيثة تستهدف وجودنا تستهدف حياتنا تستهدف أعراضنا تستهدف سلامة وطننا. وهذا لم يعد خفيًا فلقد وصلنا إلى حالة يستيقظ فيها النائم وينتبه فيها الغافل، أما آن لنا أن نرعوي؟ أما آن لنا أن نعود إلى رشدنا؟ أما آن لنا أن ننبذ هذا الأسلوب القذر الغبي الأحمق الذي يودي بنا إلى هلاك الأمة وضياع البلد؟ أما آن لنا أن ندرك أن قتل النفوس البريئة سبب لهلاك الأمة برمتها، إذا كان النبي e قد أخبرنا أن هدم الكعبة أهون عند الله من قتل امرئ مسلم، فماذا قد بقي وقد استحرَّ القتل في الأبرياء من أبناء الأمة ودون أي مسوغ ودون أي موجب. أن يدخل إنسان إلى مكان يكتظ بالأبرياء بالذين جاؤوا لحاجاتهم فيعمد لقتلهم وقتل نفسه «مَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده، يلجأ بها في بطنه خالدًا مخلدا في نار جهنم أبدا» هكذا قال النبي e عمن قتل نفسه، فكيف بمن قتل نفسه وقتل الأبرياء معه!! أيُّ دين هذا وأيُّ جهاد هذا؟ أيُّ عمل إجرامي يرتكبه هؤلاء تحت شعارات تضليلية ممزقة مفتتة تؤدي إلى ضياع البلاد وضياع الأمة وهدر حرماتها وضياع حقوقها، لم تقدم اسرائيل بتاريخها بأمر كما خُدِمت بهذا التآمر الذي أقضَّ مضجعنا ونشر الخوف والهلع في قلوب الناس فيها. أمَا يكفينا ما نحن فيه؟ إذا كان هذا الذي يجري إنَّما يجري بسبب ذنوب منا فما علينا إلا أن نرفع الأكف إلى الله ونقول له: يا أرحم الراحمين ارحمنا، يا غافر الذنب اغفر لنا، اللهم إنَّا قد تبنا إليك، اللهم إنَّا قد تبنا إليك، اللهم إنَّه لا ملجأ ولا مرجع لنا إلا إليك. وقفنا بباب رحمتك، التجأنا إلى باب رحمتك، التجأنا إلى عفوك، التجأنا إلى صفحك، فاغفر اللهم ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وفرج عنا ما أهمنا وأغمنا، إليك رفعنا حاجاتنا، لقد عجز الناس عن حل مشكلاتنا، وليس أحد منهم يبتغي حلها، إنما نلتجئ لحل مشكلتنا إلى بابك، إنما نلتجئ إلى حل مشكلتنا إلى أعتابك، إنهم يكيدون كيدا وأنت الذي تكيد كيدا، اللهم فاجعل كيدهم في نحورهم، واجعل مكرهم مرتدًا إليهم، أعد الأمن والأمان والسلامة والطمأنينة إلى البلاد والعباد، واجعل كيد الكائدين مرتدًا إليهم ياذا الجلال والإكرام، نسألك بأطفال يتُموا وأرامل يبكين، نسألك بالأبرياء بالدموع السخية التي جرت من أعينهم والآهات التي تصدر من قلوبهم أن ترفع مقتك وغضبك عنا وأن تكفينا شر هذه الفتنة بأمان منك بلطف منك بفرج منك، يا أرحم الراحمين يا صريخ المكروبين.
أقول قولي هذا وأستغفر اله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الحمعة في 17 / 03 / 2017م


تشغيل

صوتي