مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 03/03/2017

خطبة د. توفيق البوطي: فأصلحوا ذات بينكم


فأصلحوا ذات بينكم
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ( ويقول جلَّ شأنه: ) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ( وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر t أنَّ رسول الله e قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا؛ فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» وروى مسلم عن أبي هريرة t قال قال رسول الله e: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره، التقوى ها هنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه»
أيُّها المسلمون، مرت على المنطقة - ولا تزال- ريحٌ سمومٌ صفراء، مزقت الصف وأفسدت ذات البين، وبثت مشاعر الكراهية بين الأخ وأخيه، والصديق وصديقه، والزوج وزوجته، فغدت الأمة أنكاثًا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد حتى شُهِرَ السلاح بين الإخوة في البلد الواحد، وشاع القتل وانتشر الدمار، وصدق فيهم وصف الله لأراذل الخلق: )يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ( وغدا بعض هؤلاء يستهدفون الجسور والأنفاق والمصانع والمرافق الحيوية، يدمرونها، حتى وصل بنا الحال أن أشفقت بعض الأمم علينا، وعرضوا عروض المصالحة وإصلاح ذات البين، إلا أن الذين حركوا تلك الرياح القذرة؛ حذروا من الصلح، وشجعوا على مزيد من الدمار والخراب وسفك الدماء، وها نحن قد وصلنا بنا الحال إلى ما ترون.
أيها المسلمون، الوضع في بلادنا كما هو الحال في بلاد مشابهة يُؤسف له، تردّت الأوضاع، وشاع الفقر، وشاعت الكراهية، وانتشرت الكراهية فيما بين الناس، وامتلأت القلوب حقدًا وغلًا بين الإخوة، ولصالح مَن؟ لصالح العدو الواحد، لصالح اسرائيل ولصالح من يقف خلف اسرائيل، ليُؤَمن لها حدوداً آمنة وحياة رغدا، بينما نحن يقتل بعضنا بعضا، ويشرد بعضنا بعضا. ومضى الناس شذر مذر، منهم من بقي على غلٍ ومنهم من رحل على تشرد وغربة وشقاء.
نحن على يقين أنَّ ما أصابنا إنما أصابنا بذنوب ارتكبناها ومظالم وقعنا بها، ولكن؛ أليس لنا عقلٌ نفكر ونتدبر عواقب الأمور وعواقب أفعالنا! ألا نسمع قول الله سبحانه وتعالى يبين لنا حقيقة ما يجري بيننا عندما يقول: )إن الشيطان إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا( ألا نسمع قوله سبحانه: )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ( بإعراض الناس عن النصح صدق فيهم قوله سبحانه: )وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ( كم حذرنا وكم قلنا ناصحين أن يقلع الناس عن هذا الطريق عن هذا النفق المظلم، وعن هذه الطريق الشقية المشقية المتعسة، التي لن تعود على الأمة إلا بالشر، إلا بالدمار والخراب والهلاك، ولكن قلَّ من سمع. فهل من يقظة تعود بنا إلى رشدنا، لقد عرض العفو إثر العفو، والمصالحة إثر المصالحة، هناك من استفاد، من ارعوى واستيقظ قلبه وعقله فاستجاب، وهناك من هو موغل في حقده ممعن في طاعة الشيطان، والشيطان هنا دول البغي والعدوان، بالإضافة إلى الشيطان الذي هو ابليس الذي نعرفه، الذي عرفنا مكره بنا )وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( نعم، هل من يقظةٍ تعود بنا إلى رشدنا فتجتمع كلمتنا على توحيد الصف وإصلاح ذات البين، ومنع تفاقم الفساد بعد كل الذي تفاقمه، هل من يقظة تعيدنا إلى بناء ما دُمر وإصلاح ما أفسد وصون ما بقي، ونعود إلى العناق بدل الشقاق، وإلى المودة بدل الأحقاد، وأن يمسك بعضنا بيد بعض لنطهر بلادنا ممن يعيث فيها فسادًا وقتلا، أولئك الأغراب الذين أرسلوا إلى بلادنا لكي يعملوا يد التخريب والتدمير فيها، أما آن لنا أن نستيقظ ونعلم أن ما يجري في بلادنا من صنع عدونا وليس من صنعنا وأنه يبتغى به الإفساد لا الإصلاح، وإنما يراد به الاستعباد لا الحرية، متى ستستيقظ العقول ومتى يرعوي الناس ويعودون إلى رشدهم، هل من يقظة تعيدنا إلى العناق بدل الشقاق، وإلى المودة بدل الأحقاد وأن يمسك بعضنا بيد بعض لنعيد بناء هذا الوطن ونعيد تماسك هذا المجتمع؟! هل من يقظة تصفوا فيها القلوب وتزول منها الأحقاد والضغائن، فالوطن لنا جميعًا، فلنرسم لأنفسنا غدًا يبتسم له أبناؤنا وأحفادنا، وتزدهر فيه أرضنا بالخير والعطاء. إن غيرة أحدنا على نفسه، وغيرته على عرضه، وغيرته على بيته، تدفع بنا جميعًا إلى أن نعود فنعيد لغة المحبة بدلًا من لغة الكراهية، ومنطق الوداد بدلًا من منطق الأحقاد، وأن نعيد البناء لهذا الوطن بعد أن ناله ما ناله من الخراب.
أسأل الله أن يلهمنا الرشد، ويعيدنا إلى المودة والصلاح، وأن يكف أيدي الطغاة البغاة المفسدين في الأرض عن وطننا وعن أبنائه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الحمعة في 03 / 03 / 2017م


تشغيل

صوتي