مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 10/02/2017

خطبة د. توفيق البوطي: تربية الأبناء


تربية الأبناء
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أمَّا بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( وروى البخاري عن عبد الله بن عمر t أنَّ النبيr قال: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وولده، وهي مسؤولة عن رعيتها، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، آلا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"
أيُّها المسلمون؛ مسؤولية الإنسان في الدنيا أوسع من دائرة نفسه، فهو مسؤول عن نفسه بالدرجة الأولى، ومسؤول عن أسرته ثم إن مسؤوليته تتسع وتتسع حتى تشمل المجتمع كله، إنَّها تشمل من هم في عهدته من زوجة وولد، والمسؤولية متبادلة، فالزوج مسؤول عن زوجته والزوجة مسؤولة عن زوجها، ومسؤولة عما استرعاها الله في بيت زوجها، والولد في سن التكليف مسؤول عما استرعاه الله عزَّ وجل، والأمانة التي في عهدة هؤلاء جميعًا، تشمل المال والنفس وسائر ما في العهدة، وأخطر أنواع المسؤولية؛ مسؤولية المرء عمَّن في عهدته وقد ائتمنه الله تعالى عليهم في شأن دينهم وأخلاقهم وقد صرح بذلك بيان الله عزَّ وجل عندما قال: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ( فنحن مؤتمنون على من استرعانا الله تعالى في عهدتنا من دينهم وأخلاقهم بالإضافة إلى المسؤولية عن النفقة وأسباب المعيشة من سكن وطعام وكساء وشراب، كل ذلك نحن مسؤولون عنه وعلينا أن نتحمل مسؤولياتنا تجاه من هم في عهدتنا.
متى تبدأ مسؤولية المرء عن أولاده؟ مسؤوليتك عن ولدك لا تبدأ حين ولادته ولا حين سن التمييز؛ بل تبدأ من حين اخترت أمَّ هؤلاء الأولاد، من حين اخترت زوجتك؛ لأنَّ على المرء أن يضع في اختياره بعين الاعتبار أنَّ هذه الزوجة ستصبح أم أبنائه وبناته، عندما تختار زوجتك؛ إنما تختار من ستكون أمَّ أطفالك، وتعهد إليها بتربيتهم وتوجيههم حال غيابك وانشغالك بكسب الرزق أو الأمور العامة، وعندما تبني بيتك وتتزوج تبدأ مسؤولياتك من اللحظة التي صارت هذه الزوجة عندك، فتعاشرها كما أمر الله عز وجل بالمعروف )وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ( وتحسن معاملتها وتكون قدوة لها في سلوكها في تدينها في استقامتها، يجب أن تضع بعين الاعتبار أن تكون هي وأنت فرسي رهانٍ في التسابق والتنافس في طاعة الله عزَّ وجل، هذا بالإضافة إلى مسؤولياتك عن الانفاق على زوجتك وعمن سيرزقك الله تعالى من الأولاد، أن توفر لهم أسباب المعيشة الكريمة من سكن وطعام وشراب وكساء، وأن تجعل بيتك الذي أكرمك الله عزَّ وجل به ومن في بيتك؛ أن تجعل من هذا البيت بيت الذكر بيت الدين بيت التقى، بيت التنافس في طاعة الله عزَّ وجل، بيت التوادد والتراحم، حتى تشيع في البيت الملاطفة والكلمة الطيبة، فتبادر إلى الصلاة وتلاوة القرآن والذكر؛ لتبادر هي أيضًا بدورها إلى الصلاة وتلاوة القرآن والذكر، وتتجنب في كلامك وحديثك الكلمات القاسية التي من شأنها أن تجرح شعور من يسمعها وتتجنب تلك التي تكون فيها من الأذية مالا يرضى الإنسان السوي بها، أن تكون عبارتك التي تستخدمها عبارات منتقاة على أعلى مستوى من التهذيب والخلق واللطف ومراعاة المشاعر، بعد ذلك هذا السلوك الحسن في حياتك الشخصية وأمام زوجتك وأمام أولادك سينعكس بشكل تلقائي عليهم هم، فتبادلك اللطف باللطف، وتبادلك الصدق بالصدق، وتنافسك في طاعتك وعبادتك منافسة فرسي الرهان في التقرب إلى الله تعالى، ذكّرها بالله وتذكر أنت ربك، ذكرها بمراقبة الله ولتذكرك هي أيضًا بدورها، لتكونا في طريق الله عزَّ وجل متنافسَين متقاربين، وعندما تكونان كذلك تشيع في البيت وبين الأولاد تلك اللغة الراقية التي لم يسمع أحد من الأبناء والبنات إلا كلماتها، الكلمات اللطيفة الكلمات الحسنة الكلمات الطيبة، تجنب في بيتك أن تتكلم الكلام السيء؛ لأنَّ هذا الكلام السيء عندما يسمعك ولدك تنطق به؛ فإنه سينطق به، وستجد أثر سوء سلوكك في أبنائك، وستجد زوجتك سوء سلوكها في بناتها؛ لذلك تجنب ما فيه الأذى أو الإساءة من الألفاظ أو المعاملة. إذا نودي للصلاة فبادر إلى الصلاة، وكن حريصًا على أن لا يسابق صلاتك شيء من الاهتمامات؛ بل ليكن اهتمامك الأول عند المناداة إلى الصلاة أن تتجه إلى الصلاة، أن تتجه إلى عبادتك، أن ترى زوجتك وأولادك منك شدَّة الحرص على صلاتك، لأنَّ ذلك يعكس مدى خشيتك من الله ومدى محبتك لله ومدى مراقبتك لله سبحانه وتعالى فينعكس هذا الشعور على قلوب أفراد هذه الأسرة من زوجة وأبناء وبنات، فينعكس على سلوكهم أيضًا بما ينسجم مع تطلعاتك في تربيتهم، أولادك بناتك أمانة في عنقك، وقد استرعاك الله هذه الأمانة أودع في أبنائك وبناتك فطرة سوية فلا تفسدنها ولا تشوهنها، «فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه» إنَّ الله سبحانه وتعالى عندما رزقك هؤلاء البنات وهؤلاء الأبناء أرسلهم لك صفحة بيضاء فلا تكتبنَّ عليها إلا الكلام الطيب إلا السلوك السوي إلا الأخلاق الطيبة إلا الإيمان والاستقامة، هذا الذي ينبغي أن تفعله، وبهذا تكون قد حميت أسرتك إلى حدٍ بعيد، اجلس إلى أبنائك وتدارس معهم القرآن، اجلس إلى أبنائك وبناتك وادرس معهم سيرة النبي r، سيرة الصحابة الكرام في بطولاتهم في جهادهم في تضحياهم في صدقهم في أمانتهم في أخلاقهم في وفائهم في كرمهم وسخائهم في تراحمهم؛ لكي تصبح تلك المثل هدفًا في سلوك أبنائك وبناتك، ويجب أن تترجم أنت معنى هذا الهدف في شخصيتك أنت ليجدوا فيك القدوة الحسنة إلى تحقيق ذلك. علمهم الطهارة والنظافة، الطهارة في العبادات، والنظافة لسلامة الحياة والعيش، لأنَّ كلا الأمرين مطلوب منك و مطلوب من كل إنسان يريد أن يرعى شؤون دينه وشؤون دنياه وسلامته وصحته، علمهم الطهارة والصلاة حبب إليهم الأخلاق الكريمة، حبب إليهم عبادة الله، حبب إليهم طاعة الله، ذكرهم بالموقف بين يدي الله عزوجل وبما وعد الصالحين من عباده )جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا( وذكرهم في حال المعصية بما قد يعرضون أنفسهم له من شقاء أو تعاسة أو عذاب، كن رقيبًا على مدى تأثرهم بالبيئة المدرسية وبيئة الحي، لأنَّ هذه البيئة ستترك آثارها في شخصية بناتك وأولادك، إنَّ غفلتك عن مثل هذه البيئة يمكن أن تودي بأبنائك وبناتك إلى المهالك، كن العين الساهرة على استقامة أولادك وسلامة تفكيرهم وسلامة سلوكهم، فكم من أبٍ غفل عن ولده فأورده المهالك، أورده الشقاء والتعاسة وقذف به من غير أن يشعر إلى كثيرٍ من الانحرافات والمسالك السيئة، راقب سلوكه ومن هم أصدقاؤه، وكيف يتعامل مع أصدقائه، ومن هم أولئك الذين يمكن أن تؤثر أخلاقهم في أخلاق ولدك، جنبهم من يمكن أن يكون تأثيره سلبيًا في سلوك أبنائك وبناتك، جنبهم تلك المسالك الوعرة التي يمكن أن تودي بهم إلى الانحراف والرذيلة والضلال، حاورهم، لتكن طريقتك مع أبنائك وبناتك طريقة الحوار، طريقة الإقناع والحجة، واعلم أنَّ ولدك يملك عقلًا كما تملك العقل، ويملك عاطفةً كما تملك العاطفة، أَثِرْ عاطفته نحو الأمور الطيبة بشكل طيب، وجه عاطفته إلى الأمور القبيحة كرهه فيها لكي يكرهها، حبب إليه أصدقاء الخير والاستقامة، الأخوة الصالحين الطيبين، بغِّض إليه أصدقاء السوء والذين سلكوا الطرق المنحرفة التي من شأنها أن تودي به وتهلكه، نعم باللطف والحكمة اسلك بأولادك طريق الخير وجنبهم طريق الشر والسوء، لا تنسَ أنَّك أنت القدوة الحسنة الذي يجب أن يكون دائمًا موضع احترام وتقدير من أبنائك وبناتك، لكي يجدوا فيك المثل الأعلى في سلوكهم وأخلاقهم ولغة الخطاب التي يخاطبون بها الآخرين، راقب لباس أبنائك وبناتك، علمهم القدوة الحسنة في اللباس وأن لا يتأثروا بالتيارات التي نراها هنا وهناك، والتي من شأنها أن تشوه أذواقهم وتشوه سلوكهم وتقذف بهم إلى كثير من الانحرافات. لغة الخطاب راقبها فإنَّ لغة الخطاب هي التي ترقى بصاحبها أو تهبط به، حذرهم من مصاحبة أصحاب الرعونات وأصدقاء السوء، واجعل كل ذلك مبنياً على قاعدة محبة الله وخشيته والحياء منه ومراقبته، وفوق كل ذلك أكثر من الالتجاء إلى الله عزَّ وجل أن يعينك على تربية أولادك وبناتك، وأن يعينك على رعاية زوجتك وأن تقوم بشأنها على الوجه الذي يحقق لك الأجر والمثوبة عند الله عزَّ وجل، واعلم أنَّ أولادك وبناتك هم امتداد لوجودك، فإن غرست فيهم الخير استمر ثواب ذلك الخير أجيالًا من بعدك، وإن غرست فيهم الشر تحملت أوزار ذلك الشر من بعدك أنت بسبب إهمالك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فيا فوز المستغفرين
خطبة الحمعة في 10 / 02 / 2017م


تشغيل

صوتي