مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/01/2017

خطبة د. توفيق البوطي: أزمة المياه بدمشق


أزمة المياه بدمشق
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ﴾ ويقول جلَّ شأنه: ﴿وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ ويقول جلَّ شأنه:﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: "ليس السنة بأن لا تُمطَروا، ولكن السنة أن تُمطَروا وتُمطَروا ثم تُمطَروا ولا تُنبت الأرض شيئاً" وروى ابن ماجة عن عائشة t قالت: سمعت رسول الله r يقول: "مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم".
أيها المسلمون؛ أسبوعان من حالة بائسة ألمت بأمتنا في هذا البلد. لم تكن الحالة في بلادنا على ما يرام، كانت هناك فتنة تطوف ببلادنا وكنا نشعر بلَأْوائها وشدائدها وسَمومها وشديد آثارها، ولكن ما ألمّ بنا في الأسبوعين الماضيين ولايزال؛ هو أشد من الفتنة كلها طيلة الفترة التي مضت، الحرمان من الماء -وأي ابتلاء أشد من الحرمان من الماء- والله تعالى يقول ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ وكلما امتنَّ الله علينا بنعمه جعل في مقدمتها الماء، وكلما وعدنا بالنعيم جعل من أعظم مظاهر النعيم الماء، فأن نُحرم من الماء هذا من أشد الابتلاء ومن أشد المحن، وأن نرى أبناء دمشق التي تسقى بسبعة أنهر، وتشرب من نبع هو أكبر من الأنهر السبعة مجتمعة، ثم يتراكض أبناؤها ونساؤها وأطفالها بحثاً عن الماء، إنه لابتلاء شديد، وانها لمحنة تتزلزل لها الأرض وترتعد منها الفرائص. ينبغي أن لا تمر بنا هذه الحالة ونحن غافلون عن معاني وعبرة هذه الحالة التي نمر بها، أول أمر ينبغي أن نتذكره –وهذا مما يسميه البعض جلد الذات- أجل يجب أن نجلد ذواتنا، يجب أن نستذكر أننا لسنا على النحو الذي ينبغي أن يكون، ربنا تبارك وتعالى أعطانا قاعدة لا يمكن أن تختل: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم بشكل مباشر أو غير مباشر، تفشت الفاحشة في البلاد، وانتشرت المنكرات فيها، واستعلن أهل الفساد بفسادهم، وعلى الرغم من إلهاب ظهورهم بأنواع من الشدائد والمحن والابتلاءات، إلا أنهم في غفلتهم سادرون، وعلى غيّهم مصرُّون، ولطالما حُذرنا، ولطالما أُنذرنا، ولكن ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ الفتنة التي طافت بنا ولا تزال جاءت إثر منكر تحدى فيه صاحبه المجتمع وقيمه ومبادئه وأخلاقه ودينه، وأصرَّ إلا أن يستعلن به، وقد حذّر من حذر، وأنذر من أنذر -رحمه الله تعالى- ولكن هل من متعظ؟ حتى إذا ألمت بنا الفتنة أخذ أصحاب الفتنة ومثير الفتنة من دهاقنة الفساد والطغيان والانحراف ينسبون الفتنة إلى التيار الديني ويتوعدون بإغلاق المساجد-أنهم سيغلقون المساجد- خسئوا المساجد هي قبلتنا هي مقدساتنا، ستبقى المساجد رغم أنوفهم، والذين شوهوا المساجد هم الذين يمكن أن يعاقبوا، هم أعداء المساجد وليسوا أبناء المساجد، الذين ينسبون المفاسد التي جرت والمحن التي جرت في بلدنا إلى التيار الديني أو إلى المسجد أو إلى غير ذلك، هم الوجه الآخر لداعش، والوجه الآخر للطغيان الإرهابي الذي يطوف في بلدنا، هم جواز السفر الذي يمر عبره أبناء الفتنة لكي يحرقوا بلادنا بنار الفتنة، هذه المساجد قلاعنا وحصوننا، هذه المساجد أرواحنا ودماؤنا، هذه المساجد لا يمكن أن نسمح لأحد أن يمد يده، واليد التي ستُمتد إلى المسجد ستُقطع، هذه المساجد هي التي صانت البلاد من الفتنة، هي التي وضعت الحد للفتنة، هي التي حالت دون أن تستشري الفتنة، والتيار الديني هو الذي أمسك بزمام الفتنة فأبعدها عن أن تحرق ما لم يحترق من بلادنا. الانتهازية الرخيصة التي تظهر من هؤلاء الأفاكين الحاقدين، هي وراء كل معاناتنا. على أننا ينبغي أن ندرك أننا نحن أيضاً وراء فتنتنا، الذين لا يُرَبّون أبناءهم ولا بناتهم والذين لا يصونون بيوتهم ونساءهم، والذين لا يصونون أنفسهم عن مستنقع المنكرات التي تنتشر في بلادنا ينبغي أن يدركوا أن هذه السياط إنما هي سياط ابتلاء، إنما هي سياط تأديب ولعل هذه السياط تكون رحمة إذا استيقظت الأمة في أعقابها، أمَّا إذا أصرَّت فذلك أمرٌ آخر، إذ لا ندري ما يمكن أن يترتب على إصرارها.
أيها المسلمون؛ ربنا تبارك وتعالى يقول في كتابه: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ فلنبدأ بالتضرع، فلنبدأ بالبكاء على أنفسنا، على بيوتنا، على ذنوبنا، على آثامنا، على تقصيرنا، على غشنا في المعاملة، على منعنا للزكاة، على تقصيرنا في عبادتنا وواجباتنا، على إهمالنا لتربية أبنائنا وبناتنا، على قطع أرحامنا، على سوء معاملتنا لجيراننا، على ظلمنا وبغينا وعدواننا. كل هذا موجود في مجتمعنا، ظلمنا للفقراء موجودٌ أم ليس موجوداً؟ استغلالنا للمحنة أسوأ استغلال على كواهل المساكين المشردين أليس قائما فينا؟ ألا يُستغل المشردون في بلادنا من قبل الكثيرين منا، وبدلاً من أن نعطف عليهم نزيد في أحمال مصائبهم؟ أما ينبغي أن ترق قلوبنا لإخوان لنا أدمت المحنة قلوبهم وشردتهم عن بيوتهم! وفوق ذلك كله نستغل ذلك ونزيد في آلامهم إيلاما، أليس هذا قائماً في مجتمعنا؟ الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. التغالي في الأسعار والجشع في البيع والشراء أليس من ذنوبنا؟ أليس قائما في مجتمعنا؟ نشر الأزياء الفاضحة في بيوتنا في مجتمعاتنا في أسرنا أليس قائماً؟ نروّج لمنكرات الغرب في مجمعاتنا في بيوتنا بين أهلينا وبين جيراننا، وبدلاً من أن يستيقظ القلب منا؛ يمعن الكثيرون منا في الغواية و المعصية، لا شك أن ثمة طغياناً من أدوات اسرائيل وأمريكا القابعة في بلادنا المستوردة والمحلية، أولئك الذين ركبوا متن الفتنة وأوقدوا نارها، وتجردوا عن كل مشاعر الإنسانية والدين والضمير والأخلاق، فحرموا أبناء مدينة فيها سبعة ملايين نسمة من الماء، هؤلاء المجرمون لعنهم التاريخ وتلعنهم الألسن ويلعنهم رب السموات والأرض؛ على ما يرتكبون بحق أمتهم. لا شك أنه ابتلاء، لا شك أنهم هم أدوات اسرائيل في بلادنا، أدوات أمريكا في بلادنا، هؤلاء هم النعال الذين تلبسهم أمريكا في بلادنا، الذين يأبون إلا أن يظهروا لؤمهم وخستهم ودناءتهم وجرائمهم بين أبناء وطنهم. منهم المستورد من أقاصي الدنيا ومنهم البضاعة المحلية، لهؤلاء نقول: إما أن يرعَووا وإما أن ينزل بهم البلاء في أشد أشكاله، فالابتلاء بالنسبة لنا ندرك أننا مذنبون، نحن نعترف بذنوبنا، هناك ذنوب ارتكبها أبناء مجتمعنا ولهم -لأبناء مجتمعنا- أن يثوبوا إلى رشدهم ويعودوا عن غوايتهم ويتوبوا إلى ربهم، ولكنَّ الظلم لا يمكن أن نسكت عليه، والبغي والعدوان يجب أن يوضع له حد بأقسى الأساليب، المتسترون وراء النساء والأطفال، والقابعون على نبع الماء الذي يسقي هذه المدينة؛ هؤلاء أكبر المجرمين في الأرض كلها، أشد الناس إجراماً على الأرض كلها، هؤلاء يستحقون أشد العقوبة وأشد العذاب، ولاشك أن الله سبحانه وتعالى ليس بغافل عما يعمل الظالمون، لابد أن يحيق بهم مكرهم السيء. نعم علينا أن نتوب وعلينا أن نجدد التوبة ونرجع إلى ربنا، ولكن علينا أن ندرك جيداً أن الظالم لا يمكن أن نسكت على ظلمه، ولا يمكن أن نرتضي أن يعيش أبناء امتنا في حالة من الحرمان ما مرَّ مثلها في تاريخ بلدنا.
أيها المسلمون؛ نحن بإزاء هذه المسألة نحن كأبناء وطن ومسلمين، لا نملك إلا أن نبسط أكفنا إلى الله فنقول: يا الله فرج عنا، اكشف عنا من البلاء مالا نطيق، نقول يارب، ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا، ولا مفر من ذنوبنا إلا إلى بابك إلا إلى أعتابك إلا إلى جنابك، فيا حي ويا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اكشف عنا من البلاء والحرمان والشدة ما لا يكشفه عنا غيرك، أنت لها يا أرحم الراحمين، كف أيدي الطغاة البغاة المفسدين في الأرض عن بلادنا عن أمتنا، اجعلهم نكالا، كفّ أيديهم عنا يا رب العالمين، أعد الأمن والأمان إلى بلادنا يا ذا الجلال والإكرام، واجبنا أن نعود فنحاسب أنفسنا و نصحح من سلوكنا، أن نؤدي واجباتنا ونجتنب عن المحرمات ونصل أرحامنا، ونبرّ والدينا وأن نصلح ذات بيننا، وأن نصلح أحوالنا فيما بيننا وبين ربنا لكي يستجيب الله لنا، لكي يسعفنا ربنا تبارك وتعالى. أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوقظ قلوباً ممعنة في غفلتها، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يقطع تلك الأيدي التي قطعت الماء عن بلادنا وأن يجعلهم نكالاً، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الحمعة في 06 / 01 / 2017م


تشغيل

صوتي