مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/12/2016

خطبة د. توفيق البوطي: احتفالنا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم


احتفالنا بمولد النبي r
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيُّها المسلمون؛ يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( وقال سبحانه: ) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (وقال سبحانه: ) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ( روى مسلم في صحيحه عن أبي موسى عن النبي e قال: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق"
أيَّها المسلمون، مع ذكرى مولد المصطفى r تعمُّ مظاهر الابتهاج بهذه الذكرى؛ لأنها تعني ولادة النور بعد أن عمَّ الظلام، وولادة الهدى بعد أن انتشر الضلال، وانبثاق النور وظهور الخير بعد أن شاع الشر واستبد. ذكراه r تعني جمع الشمل، واصلاح ذات البين وتوحيد الكلمة، بعد أن كان العرب مِزقًا وأشتاتًا، يقتتلون لأتفه الأسباب )إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا َ( نعم، طبعًا نحن لسنا معنين بأولئك الذين ينكرون علينا سرورنا واحتفالنا بذكرى مولده r ألم يقل ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم )قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ( وهل من فضل على هذه الأمة أعظمُ من رسول الله r وهل كان رسول الله r إلا كما وصفه ربه )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ( فنحن احتفالنا احتفال بفضل الله واحتفال برحمة الله Y وهل احتفالنا بمولده إلا بأشعارٍ تعرض سيرته وشمائله وتحض على محبته واتباعه؟ ومن عجب أن المنكرين علينا احتفالنا بمولده r يحتفلون بمناسبات ملوكهم ومناسباتهم الوطنية حتى إذا جاءت ذكرى مولد النبي r رفعوا عقيرتهم بالإنكار علينا، إن ذكرى مولده r مناسبة لتجديد الصلة به عليه الصلاة والسلام، وتأكيد للانتساب إلى دعوته والاستجابة لها والالتزام بهديه ودينه وسنته، وإحياءٌ لمشاعر المحبة نحوه كما أحبنا، واشتياقنا إليه كما اشتاق إلينا، لقد عبر النبي r عن محبته لجبل أحد ومحبة جبل أحد لنا فقد روى البخاري عن أبي حميد قال: أقبلنا مع النبي r من غزوة تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: «هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه»، كلمات مفعمة بالرقة تدل أن العلاقة بيننا وبين رسول الله r ليست مجرد علاقة فكرية بل علاقة وجدانية، علاقة محبة علاقة شوق، علاقة كلما مرت ذكرى لرسول الله r بنا اهتزت قلوبنا لها سرورًا وفرحًا وتأثرًا وشوقًا إليه e وقد روى مالك عن أبي هريرة أن رسول الله e خرج إلى المقبرة فقال: " السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا" فقالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ قال: "بل أنتم أصحابي. وإخواننا الذين لم يأتوا بعد – الذين لم تكتحل مآقيهم برؤية النبي eكما لم يرهم النبي e يود النبي e لو أنه رآنا أفلا نشتاق إلى رؤيته أقلا تهتز قلوبنا شوقاً إليه في ذكرى مولده - وأنا فرطهم على الحوض" فقالوا: يا رسول الله؟ كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: "أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟" قالوا: بلى يا رسول الله قال: "فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض. فلا يذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم ألا هلم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدّلوا بعدك. فأقول: فسحقا فسحقا فسحقا" الذين لم تكتحل مآقيهم برؤية النبي r كما لم يرهم النبي r يود النبي r لو أنه رآنا، أفلا نشتاق إلى رؤيته؟ أفلا تهتز قلوبنا شوقا إليه في ذكرى مولده r «فسأله أصحابه، كيف تعرف من لم تر من أمتك؟ قال: أرأيت لو كانت لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟» جبهتها بيضاء، قوائمها بيضاء من أثر الوضوء، ألا يميز أتباعه وأمته الذين جاؤوا من بعد وقد تميزوا بآثار الوضوء، قال: «فإنهم يأتون يوم القيامة غرّاً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض» هو بانتظاركم على الحوض r «ألا فليذادنَّ أناس عن الحوض- يطردون ويبعدون- كما يزاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا- تركوا نهجك وسلكوا طرقا أخرى، تركوا اتباعك واتبعوا غيرك- فأقول: فسحقا فسحقل فسحقا»
أيها المسلمون؛ احتفالنا بمولده r أمر ذو أهمية في حياتنا وفي ديننا وفي سلوكنا وتصرفاتنا وتربيتنا لأسرنا وتربيتنا لأبنائنا وبناتنا، أمر ذو أهمية. على أننا نبين أن الاحتفال ليس مجرد أبيات ينشدها ذو صوت شجي، فنطرب لذلك الصوت الشجي، ولا مجرد اجتماع توزع فيه الحلوى تعبيراً عن السرور بذكرى مولده r. ذكرى مولده r عهد جديد، نمد فيه أيدينا إلى النبي r من وراء أربعة عشر قرناً نمد إليه الأيدي نجدد البيعة على اتباعه على انتهاج هديه على الاقتداء بسنته على الامتثال بأوامره على الاجتناب لنواهيه، أن نتمسك بسنة رسول الله بهدي رسول الله، ولقد عرَّفنا ربنا تبارك وتعالى على شخصية النبي r هو ليس مجرد عبقري ذا أفقٍ ذهني عظيم، وليس مجرد قائدٍ أوجد أمة وبنى حضارة، هو رسول الله هو نبي الله، هو حامل رسالة الله إلينا، ونحن عباد الله، نحن الذين قلنا لا إله إلا الله، أي أننا يا رب عبيد لك، نطيعك فيما أمرت وفيما نهيت، فنتبع أوامرك ونجتنب نواهيك، ويقول لنا الله عزَّ وجل محمد رسول الله، هو رسولي، الرسول الذي يحمل رسالة الله إلينا، فلذلك فإن الاحتفال بمولده احتفالٌ بتجديد العهد والمبايعة الجديدة للنبي r على اتباع هديه والامتثال لشريعته والتمسك بسنته، غير عابئين باستهزاء المستهزئين، ولا بوعيد المتوعدين، ولا باستخفاف المستخفين، نزداد يوماً بعد يوم تعمقًا في اتباع هديه، تشرفًا بانتهاج سنته وتمسكًا بأوامره واجتناباً لنواهيه، إن الاحتفال بمولد النبي r يجب أن يكون استعادةً لدروس شمائله نعلمها أنفسنا وبيوتنا وأسرنا، استعادة لدراسة سيرته r لنرى في سيرته معالم ديننا بصورة ماثلة عملية، نجدها أمامنا بصورتها التطبيقية، فسيرة النبي r هي إسلامٌ يتفاعل، إسلامٌ يطبق، إسلامٌ يمشي على الأرض بكل جوانبه، سيرة النبي r بناء أمة، وبناء دولة، وبناء حضارة، وبناء ثقافة، وبناء شريعة، سيرة النبي r هدي النبي r هذا كله ولذلك، فإن علينا أن نجعل من ذكرى مولده r توثيقًا للصلة بيننا وبينه من خلال تجديد الصلة بيننا وبين سيرته، بيننا وبين شمائله الخلقية والخُلقة، حتى إذا آل بنا الأمر إلى موقفنا بين يدي الله تعرّف علينا رسول الله، وتعرفنا عليه، فأقبلنا إليه فهش لنا ورحب بنا، لا نذاد عن الحوض كما يذاد من بدلوا وغيروا، ولا نطرد عن حوضه كما يطرد الذين خالفوا أوامره واتبعوا أهواءهم فضلوا وأضلوا، بل نمشي على هدي النبي r نحرص على أمتنا، نحرص على أرحامنا، نحرص على الأخلاق النبوية من صدق وأمانة ووفاء ورحمة، ولا نكون كالذين ضلوا فدمروا وقتلوا وأفسدوا وعاثوا في الأرض فسادا ثم كذبوا ونسبوا ذلك إلى رسول الله r، نحن اليوم بأمس الحاجة لتجديد الصلة مع رسول الله مع هديه مع سنته مع شريعته مع أخلاقه، حتى نكون فعلا محتفلين بمولده.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا شفاعته وأن يرزقنا حسن اتباعه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
منذ أسبوعين صلينا صلاة الاستسقاء ثم إن ربنا تبارك وتعالى على علاتنا وعلى كثرة هفواتنا ومعاصينا نظر إلينا نظرة رحمة فأغاثنا، إغاثته لنا بعد أيام قليلة من صلاة الاستسقاء حجة لله علينا، ودليل على أنه سبحانه وتعالى رحيم بنا فلنرحم أنفسنا ولنعد عودة صادقة إلى ربنا، لقد جأرنا في ذلك اليوم بالاستغفار إلى ربنا تبارك وتعالى فلا يكونن منا موقف اللؤم تجاه احسانه، ولنكن شاكرين بأن نزداد إقبالاً على ربنا تبارك وتعالى، وأن نسأل الله سبحانه كما أكرمنا وسقانا بفضله ورحمته أن يديم علينا فضله ورحمته، وأن لا يقطع عنا رفده، وأن يثبت أقدامنا على هديه إنه سميع مجيب
خطبة الحمعة في 09 / 12 / 2016م


تشغيل

صوتي