مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 25/11/2016

خطبة د. توفيق البوطي: الاستسقاء


الاستسقاء
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ # فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ #فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ # فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( ويقول سبحانه على لسان سيدنا نوح، والأمر قاعدة يعلمنا إياها ربنا تبارك وتعالى: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا # يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا # وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا # مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (ويقول سبحانه: ) وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(.
أيها المسلمون؛ مضت فترة ليست قصيرة من موسم الشتاء ونحن نترقب سحب الرحمة الربانية، وننتظر الغيث ولكن لم ينزل الغيث. ونحن بحاجة ماسَّة إلى الماء، الإنسان بحاجة إلى الماء والبهائم بحاجة إلى الماء والنبات بحاجة إلى الماء والله تعالى يقول: )وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (. فانقطاع الماء يعني الموت.. يعني الهلاك، يعني هلاك البهائم وهلاك النباتات وهلاك الإنسان أيضاً تبعاً لذلك، وما حرم الناس من رحمة الله عزَّ وجل إلا بسبب منهم، إذ يقول الله تعالى: )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ( فهل من يقظة للقلوب؟ وهل من انتباه من الغفلة؟ وهل من عودة إلى الله بعد طول شرود ؟
أيها المسلمون؛ سأقف عند مسألة الاستسقاء وقفات، ثم أقف عند حوادث تجري في فلسطين وقفات أخرى، أما بالنسبة للاستسقاء، فلقد أصيب الناس في عهد النبي r بجفاف، وكانت جزيرة العرب قد شاع فيها الشرك والكفر والضلال والظلم والبغي والعدوان، فجاء أعرابي إلى النبي r يستسقي، والنبي r على منبر الجمعة، فدعا رسول الله r وأغيثَ الناس، لم يكن في السماء قطعة من السحاب، فلما استغاث النبي r بربه ودعاه وسأله أن يغيث البلاد والعباد (اللهم اسقنا ولا تجعلنا من القانطين) بدأت الغيوم تتجمع والأمطار تنهمر، وبقيت كذلك حتى لم يروا السماء ستة أيام كما يقول الصحابي، في اليوم السابع جاء أعرابي فقاطع النبي r أثناء خطبته وقال: يا رسول الله غرقت البلاد، أقرأ الحديث كما رواه البخاري، قال: ، يذكر أن رجلا دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر ، ورسول الله e قائم يخطب، فاستقبل رسول الله e قائما، فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله e يديه فقال: "اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا" قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئا وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله e قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها، قال: فرفع رسول الله e يديه ثم قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والآجام والظراب والأودية ومنابت الشجر" قال: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس. صلى الله عليك يا رسول الله r.
هذا من حيث الاستسقاء أثناء خطبة الجمعة، وروى البخاري- وعندما أقول روى البخاري فالحديث صحيح- أريد أن أتوقف عند الحديث وقفة قصيرة، عن عبد الله بن عمر يتمثل بشعر أبي طالب عم النبي r لأنه كذلك أصيب المشركون في مكة بالجفاف فجاء أبو سفيان يستغيث النبي r أن يسأل الله الغيث، فأغاثهم ربنا سبحانه وتعالى، قال: فتمثل عبد الله بن عمر بشعر أبي طالب:
وأبيضَ يُستسقى الغمام بوجهه ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأراملِ
وعن عبد الله بن عمر، قال: (ربما ذكرتُ قول الشاعر-والشاعر هنا عم النبي r- وأنا أنظر إلى وجه النبي r يستسقي فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب، (وأبيضَ يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمةٌ للأراملِ)
أقف عند نقطتين، النقطة الأولى أن النبي r دعا فاستجاب الله له وأغاث الأمة وإننا لنتوجه برسول الله r أن يغيث هذه الأمة ويسعفها بالمطر قريباً غير بعيد. الوقفة الثانية، لعل ضلاليي الوهابية يعترضون علي الآن ويقولون هذا شرك، أن تقول (بجاه النبي r) أو (بحق النبي r) أو (نتوسل بالنبي r) هذا شرك! الحديث يرويه البخاري، وعن أبي طالب، هل اعترض عليه النبي r؟ هل وصف كلامه بالشرك؟ قال: وأبيضَ يستسقى الغمام بوجهه r، يستسقى الغمام بوجه النبي r، واستشهد بهذا البيت عبد الله بن عمر مؤيدًا أم معترضًا؟ كان يستشهد به، فقل لهؤلاء الضلاليين كفاكم حِجابًا بيننا وبين الله، أنتم سبب البلاء في هذا البلد، جرائمكم وضلالكم وتكفيركم لهذه الأمة أصابها بما أصابها، وهذا لا يبرئ ساحتنا من تقصيرنا بحقوق الله، من تقصيرنا بحقوق بعضنا، لا يبرئ ساحتنا من معاصٍ شاعت فينا، ولذلك علينا أن نحاسب أنفسنا، وعلينا أن نتوب إلى ربنا، وعلينا أن نصحح معتقداتنا، ونصرف تلك الضلالة عن أذهاننا ونبين أن الله U قد جعل من نبيه رحمة للعالمين، وأنه باب من أبواب استجابة الدعاء، وأن التوسل بالنبي r سبب للاستجابة، طبعًا أنا لم أذكر قصة بلال بن الحارث t والذي وقف على قبر النبي r وهو يقول: (يا رسول الله أغث أمتك) أي بالشفاعة لها، وأن يدعو الله لها وهو في قبره، وتوسل عمر t بعمِّ النبي r ليبينا جواز الاستسقاء والتوسل بالحي، وجواز الاستسقاء والتوسل بالميت، والنبي r حيٌ في قبره.
الأمر الثاني: أننا سوف نصلي صلاة الاستسقاء بعد صلاة الجمعة إن شاء الله، وسأبين أن الاستسقاء يبدأ بالدعاء في الصلوات وفي أعقاب الصلوات وفي صلاة الجمعة، ثم إن لم يُستجبْ فإن علينا أن نصلي صلاة الاستسقاء، وصلاة الاستسقاء تكون بتوجيه من ولي الأمر، وبمشاركةٍ منه. وقد صدر توجيه من السيد الرئيس إلى وزارة الأوقاف بإقامة صلاة الاستسقاء في المساجد كلها، وكان الأصل أن نصلي الاستسقاء خارج البلدة ويخرج الناس كلهم؛ ولكن إنما منع من تطبيق هذه السنة من أشعلوا الفتنة فأحرقوا الأخضر واليابس في بلادنا. وإلا فالسنة أن نقيم صلاة الاستسقاء إما في مسجد بني أمية وهو أمر مشروع، وإما في ظاهر البلدة وندعو الناس كلهم صغارًا وكبارًا شيوخًا وشبابًا والنساء أيضًا لكي نصلي صلاة الاستسقاء ونسأل الله تعالى الإستجابة.
الأمر الآخر، تجرأت العصابات الصهيونية على أمر خطير؛ فمنعت إعلان الأذان في أنحاء فلسطين. وهذه الوقاحة التي بلغتها العصابات الصهيونية في فلسطين أمر خطير للغاية وتهديدٌ لوجود الفلسطينيين، وللشعيرة الإسلامية؛ لأن الأذان ليس مجر مجرد إعلان لدخول الوقت، الأذان إعلان عن إسلام البلدة عن هوية الوطن وعن هوية البلد، وعن أنَّ هذا البلد مسلم، وهذا الذي يغيظهم. فلسطين مسلمة، وشعبها مسلم، شاءت الصهيونية أم لم تشأ، وستظل هوية الشعب الفلسطيني هوية إسلامية، وسيظل المسجد الأقصى المسجد الأقصى، لن تستطيع اسرائيل وعصاباتها من أن تحقق أحلامها، وستكون فلسطين مقبرةً لهم بإذن الله. إلا أنني أتساءل الآن أمام مشهدين، المشهد الأول: ما الذي جعل هؤلاء المجرمين يتجرؤون على منع إعلان الأذان في فلسطين؟! لولا ضعفنا ولولا الفتنة التي أججتها اسرائيل فكنا نحن المستجيبين لها، وكان في وطننا وفي بلادنا من نفذ المؤامرة الصهيونية، فأوقد الفتنة بين الأخ وأخيه بحجة الإصلاح، وبحجة الحكم الإسلامي، وبحجة الحرية وبحجج تافهة معروفة النتائج سلفًا، فماذا كانت النتيجة ؟ النتيجة كانت أن البلاد قد دمرت، وأن الأغراب غزوا بلادنا من كل حدب وصوب، يُعملون فيها يد الهدم والتخريب والقتل، مما جعل الأمة مفتتة ضعيفة مستضعفة، جيشها منهمك على مئات الجبهات في إطفاء فتنة هنا، وضربٍ على يد المجرمين هناك، ولا يزال النزيف ينتشر في أوصال بلدنا، والدمار يتفشى في أرجائها. وجرائمهم في حلب لا تخفى على ذي ضمير، ولكن يبدو أن الضمير العالمي صار نائمًا أو ميتًا، فلابد من بعث ضمير جديد يمكن لهذا الضمير أن يعيد لهذه الأمة حياتها وحريتها وحقوقها، لولا ضعفنا ولولا الفتنة، ولولا تمزقنا وتفشي الفرقة فيما بيننا لما تجرأت تلك العصابات الصهيونية من أن تمنع الأذان. وإذا كان المشهد الثاني وهو الآن مسألة الحرائق التي تنتشر في فلسطين، ما دلالتها؟ لا ينبغي أن نسر كثيرًا بتلك الحرائق؛ بل ينبغي أن نستنبط منها الحكمة، هذه الحرائق لها دلائل كبيرة وعظيمة ومؤثرة، إنها تعني أن الله يؤيد دينه ويؤيد عباده، وأنه قادر على أن يسخر جنود السموات والأرض ويسخر عجائب قدرته في تدمير أعداء دينه وأعداء عباده، لكنَّ عباده أعرضوا، نعم سخر لهم مفاتيح قوتهم أعني مفاتيح قوة اليهود فجعلها مفاتيح دمارهم، وهذا يعني أننا لو صدقنا مع الله لسخر لنا مظاهر الكون كلها لتكون تأييدًا لنا، كما سخر ريحًا في يوم الأحزاب، فجعلها سببًا لهروب تلك الأحزاب وفرارها وعودتها من حيث جاءت، كان ربنا قادرًا على ذلك، ولكننا نحن الذين أعرضنا؛ فإن أخلصنا لله فوالله لينصرن الله عباده، والله ليؤيدنَّ الله دينه، والله ليفرجنَّ الله هذا الكرب، ثم أقول: لئن صدقنا مع الله ليسقينَّ الله عباده- إن شاء الله تعالى- وما علينا إلا أن نعمل بمقتضى قوله تعالى: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا # يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا # وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (هذا وعد الله وصدق الله في وعده. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين.
خطبة الحمعة في 25 / 11 / 2016م


تشغيل

صوتي