مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 11/11/2016

خطبة د. توفيق البوطي: الصدق


الصدق
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون؛ يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ( أي من الصادقين، وقال سبحانه: )وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ( وروى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيَّ r قال: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذَّبًا» وقال r:" أربع من كن فيه كان منافقا، أو كانت فيه خصلة من أربعة كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" صفات هي سمة النفاق، وقد قال سبحانه )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ (
أيها المسلمون؛ الصدق هو أساس الأخلاق الكريمة كلها، وجذر محاسن الأخلاق وأصلها، إذ كل محاسن الأخلاق متفرعة عن الصدق، فالأمانة والوفاء والبرُّ وحسن الجوار، كل ذلك نتائج متفرعة عن الصدق. والكذب أصل المفاسد كلِّها، أصل مفاسد الأخلاق ومساوئها، فالخيانة والإخلاف ونقض العهد كل ذلك فروع لصفة الكذب الدنيئة، والأصل في الصدق أن يكون مع الله، أن تكون صادقاً مع الله عزَّ وجل. وهذا لن يتحقق إلا إذا كان القلب مفعماً بالإيمان، أما إذا كان الإيمان غائبًا؛ فإن هذا الإنسان لن يتمتع بالصدق مع الله، وإذا لم يكن متمتعًا بالصدق مع الله؛ فهو مع الخلق أقل صدقًا وأضعف أمانةً. لا شك أنَّ من صدق مع الله صدق مع الخلق، وأنَّ من كذب في عهده مع ربه عن إصرار ومراوغة؛ فهو مع الخلق أخطر في كذبه وخيانته ونقضه للعهود، ولا يُؤْمَنُ صدقٌ مع غفلة عن مراقبة الله، ومن طلب محاسن الأخلاق مع غيبوبة الإيمان فقد طلب المحال. نعم هناك في المجتمعات غير الإسلامية - في كثير منها- يمكن أن تجد ظاهرة الصدق موجودة؛ لكنه صدق مبني على مصالح مادية واقتصادية، فالهدف هو تلك المصلحة المادية، فإذا وجد مصلحته المادية مع الكذب لم يتورع عن الكذب، ولم يَحُلْ شيء بينه وبين الكذب. كثيراً ما نسمع أنَّ الأخلاق الكريمة والصدق والأمانة موجودة عند الغرب، أجل موجودة لأنَّ هناك رقابة دقيقة، وهناك مصالح تجارية تنبني على الثقة المتبادلة بين التاجر والمتعاملين. ولكنهم عندما يجدون أنَّ هذا الصدق يتعارض مع مصالحهم، يدوسون على الصدق وعلى الأمانة، ولا يتورعون عن انتهاب بلاد بكاملها؛ لا انتهاب ثمن صحيفة أو ثمن مجلة أو ثمن رغيف. قد يترفعون عن ثمن الرغيب؛ لكي يكتسبوا الثقة فيما بينهم؛ لأنَّ أصل التعامل فيما بين الناس مبني على الثقة، وإن من أجلى الأدلة على أنَّهم أمة الكذب ما تجدونه في تعاملهم مع أمتنا، ومع حقوق شعوبنا، وفي الإعلام الذي يزوّر الحقائق وينسج الأكاذيب على نحو خطير جدًا يؤدي إلى هلاك الأمم ودمار الشعوب؛ حتى إنَّ الكذب غدا عبارة عن مهنة وحِرفة متفرعًا عن مهنة الإعلام، وهناك يمكن أنْ تجد هذه الأشياء كلها.
دعونا من الغرب ومن الأخلاق الاقتصادية والأخلاق التجارية، ولنعد إلى أنفسنا، نحن في هذا المجتمع مع غيبة التربية الإسلامية عن حياتنا، وعندما أقول التربية الإسلامية؛ أعني التربية النابعة عن مراقبة الله عزَّ وجل، وإذا أردنا لهذه الأمة أنْ تنهض على أسس سليمة متينة راسخة تبني بها حضارتها ويتماسك فيها بناؤها وتصلح بها أحوالها؛ فإن جذر ذلك إنما هو التربية الإسلامية، والتربية الإسلامية ليست مادة تعطى في المرحلة الثانوية أو المرحلة الجامعية أو غيرها فحسب؛ بل يجب أن تكون منذ نشأة الإنسان الأولى جزءاً من التكوين التربوي بحيث يولد الطفل وقد رضع هذه الأخلاق مع ما يرضعه من لبن في ثدي أمه، رضعها من البيئة التي من حوله، رضعها من الأخلاق التي قام عليها بناء أسرته، تشرّبتها أخلاقه وصارت جزءاً من تكوينه التربوي، الصدق الأمانة الإخلاص الوفاء، هذه الأخلاق هي التي تسمو بنا وانعدامها هو الذي يقوض مجتمعنا ويضعف العلاقة فيما بيننا، يفقد المجتمع الثقة فيما بين أبنائه، وفيما بين أفراده؛ عندما ينعدم الصدق أو تقل الأمانة وتنتشر الخيانة. المجتمع يمكن أن ينهض على دعائم الصدق والأمانة والإخلاص والوفاء. فإذا قلت الأمانة، وانتشر الكذب وشاعت الخيانة؛ فإن هذا المجتمع يؤذن بالدمار، ويؤذن بالانهيار، ويؤذن بالفشل في بناء نفسه، وفي بناء الجيل الذي سينشأ بين يديه، إنَّ الطفل الذي يرى والده يكذب سيكون محترفًا للكذب، والطفل الذي يرى أمه تخون الأمانة سيجد في الخيانة مهارة سلوكية يمارسها. ولكنه عندما يجد البيت قائمًا على محاسن الأخلاق، على الصدق في الحديث والأدب في اللغة، اللغة الأدبية الراقية التي تقوم على سمو الألفاظ وطهر الكلمات عن بذيئها و عما لا يليق أن يسمعه الطفل ولا أن يسمعه الإنسان أصلًا في حديثنا مع بعضنا، عندما يرى الطفل أنَّ لغة التفاهم في البيت قائمة على الصدق قائمة على الإخلاص قائمة على الوفاء، قائمة على الأمانة، قائمة على لغة راقية من التهذيب واللطف؛ فإنَّ نشأته ستكون على تلك الشاكلة. وعندها سيجد أنَّ الأخلاق المخالفة لدى الآخرين مصدرُ اشمئزاز ومبعثُ نفور من تلك الأخلاق الدنيئة التي لم ينشأ عليها. على أنَّ الصدق والأمانة والوفاء والتزام العهود لا يمكن أن تترسخ في أفئدتنا وفي سلوكنا وفي تصرفاتنا وفي علاقاتنا مالم يكن كل ذلك مرتكزاً على مراقبة الله عزَّ وجل الذي قال: )مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ( والذي قال: )هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ( وقال: )وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا( عندما يدرك الإنسان هذا المعنى في سلوكه وتصرفاته، ويكون هذا الشعور حيًا في قلبه نابضًا في سلوكه مفعماً بالحيوية واليقظة في كيانه؛ عندئذٍ يمكن لهذه الخصال ولهذه الأخلاق أن تثمر آثارها المرجوة، أما الكلمات الجوفاء- عنده ضميره أوليس عنده ضمير - هذا كلام فارغ، فمالم تقم التربية على الإيمان، مالم تقم التربية على العقيدة، مالم تقم التربية على محبة الله وخشيته والحياء منه؛ فلا رصيد لها ولا يوثق بها. والأخلاق الاقتصادية تأتي وتزول مع المصالح الاقتصادية، أرض فلسطين بيعت بسبب خيانتين، خيانة الغرب، وخيانة أبناء الأمة لبعضهم، ومعاملاتنا الاقتصادية فشلت واضمحلت وانهار اقتصادنا بسبب الكذب والخيانة فيما بيننا. الثقة فيما بيننا أصبحت ضعيفة، ومن ثَمَّ فإنَّ التعامل بين الناس أصبح ضامراً؛ لأنَّ الثقة فيما بيننا إنَّما تبنى على الصدق على الوفاء على الأمانة، على الإخلاص، وعندما يكون الإنسان صادقًا ينال الاحترام وينال الثقة، ويقبل الناس عليه بقلب مطمئن؛ ولكن عندما يكذب مرة واحدة فإن الناس سينظرون إليه نظرة حذر، وعندما يشيع الكذب والخيانة في المجتمع، فإن هذا يجعل منا مجرد تجمع البشري وليس مجتمعًا. هناك فرق بين التجمع البشري والمجتمع، لأن المجتمع نسيج متماسك يقوم على المحبة يقوم على الثقة، يقوم على التعاون، كيف أتعاون مع إنسان يخونني، وكيف أثق بإنسان يكذب علي؟ كيف يمكن أن يطمئن الإنسان في بناء مصالحه لإنسان لا يأمن خيانته له؟ ولكن عندما يعلم أنًّ وازعًا إيمانيًا حيًا في قلبه سيدفع به إلى الأمانة والإخلاص، ويدفع به إلى حسن التعامل والوفاء؛ فإنَّه عندئذٍ يبني تلك العلاقة وهو مطمئن، لماذا ؟ لأنَّه صادق، لأنَّه أمين، لأنَّه موضع ثقة، وهذا يتطلب منا إيقاظًا لمشاعر الإيمان بالله ومراقبة الله، وأن تبنى العلاقة فيما بيننا على أساس محبة الله عزَّ وجل وخشيته، لا أساس مراقبة الشرطي، أو على أساس الوثائق فقط، الوثائق تزور، والشرطي يمكن أن يكون مثلك أيضاً في أخلاقك، ولكن عندما يُربّى الجميع على الأمانة والإخلاص؛ فإنَّ وظيفة الجميع تصبح عبارة عن بناء خير برنامج لنهوض مجتمعنا نحو الأفضل.
الثقة والصدق والأمانة نحن اليوم بحاجة إليها، في علاقة الحاكم مع المحكوم، وفي علاقة التاجر مع الزبون، وفي علاقة الجندي مع القائد، وفي علاقة المدرس مع الطالب، وفي علاقة الإعلام مع الأمة، وفي علاقة الناس فيما بينهم؛ أن تقوم على أساس من الشفافية كما يسمونها، ونحن نسميها الصدق والأمانة والإخلاص والوفاء. عندما أعلم أنَّك وفيٌّ لا أعتب عليك إن أخطأت يومًا لأنَّ هذا أمر ليس في وسعك أن ترده، لكن عندما أعلم أنَّك تكذب فإنَّني لن أتعامل معك. هذا الذي يمكن أن يكون فيما بين الناس، نحن ينبغي أن نجتهد في ترسيخ صفة الأخلاق والأمانة في علاقاتنا مع بعضنا وفي علاقاتنا مع أبنائنا. وهذه الأخلاق تبدأ من داخل البيت، من الأسرة ومن المدرسة، الطفل الذي يكذب ينشر الكذب في صفه، والأب الذي يكذب ينشر الكذب في أسرته، وهكذا يكون سببًا في تفسخ العلاقات الاجتماعية وانعدام الثقة فيما بيننا.
حبذا لو أنَّنا عدنا إلى ربنا، حبذا لو أنَّنا رسخنا قواعد الصدق، قواعد الأمانة، قواعد الإخلاص، قواعد الوفاء ليشعر الإنسان بمسؤوليته عن الكلمة التي يتكلمها، عن الأمانة التي عهد إليه بها، عن كل تصرف يتصرفه، لتقوم العلاقة فيما بيننا على الثقة، وعندئذٍ ينهض المجتمع على قواعد راسخة ويصبح متماسكاً يتعاون أفراده فيما بينهم، ولا يغدو أنكاثًا لا يطمئن فيه المستأجر للمؤجر، أو الأجير للمستأجر، ولا الأمين لمن ائتمنه، ولا الأب يثق بأولاده، أين يمكن أن ينهض مجتمع لا تقوم العلاقة بين أفراده على الثقة المتبادلة ؟ وأين يمكن أن تنشأ ثقة إذا لم نكن قد رسخنا علاقتنا فيما بيننا على الصدق في الكلمة والأمانة في التعامل والإخلاص فيما بيننا، هذا التعامل نفسه وفي الوفاء بالعهود والمواثيق وعدم نقضها وعدم الإخلال بالتزاماتنا. يمكن أن ننهض بمجتمعنا، ويمكن أن تصلح أحوالنا، ويمكن أن نبني العلاقة فيما بيننا على أسمى ما يمكن أن تكون؛ بمقدار ما تكون مراقبة الله تعالى في قلوبنا، وبمقدار ما تكون ألسنتنا متورِّعة عن الكلمة إلا أن تكون صادقة، وأن نمد أيدنا إلى ما ليس من حقنا أن نمدها إليه. بماذا تميَّز النبيُّ r؟ عُرف بين قومه بالصادق الأمين، وهذا الذي كان حجة على قريش وعلى أهل مكة عندما بُعث النبيُّ r، ولذلك عندما قالوا فيما بينهم قالوا: (ما عهدنا عنك كذبًا قط)، أربعون عاما عاشها فيما بين قومه لم يسمعوا منه كلمة تجاوزت الصواب أو الحق، (ما عهدنا منك كذبًا قط)، حتى إنَّه عندما هاجر النبيُّ r من مكة إلى المدينة وكان أهل مكة يتآمرون على حياته ويريدون قتله؛ لم يكن أولئك المشركون يجدون إنسانًا يأمنونه على أموالهم إلا رسول الله r.
في سيرة سيدنا عبد القادر الجيلاني – رحمه الله- أنه أراد سفراً في طلب العلم، فأعطته أمه دنانير لينفقها على نفسه، قال لها: أوصني، قالت: أوصيك بالصدق، أن تتقي الله فتصدق. وتعرّض في الطريق لقطاع الطريق الذين حجزوا تلك القافلة من المسافرين استنطقوا كل واحد منهم، عم


تشغيل

صوتي