مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 04/11/2016

خطبة د. توفيق البوطي: وعد بلفور


وعد بلفور
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ # إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ( ويقول سبحانه: ) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( وروى أبو داود في سننه عن ثوبان قال: قال رسول الله r: «تُوشِكُ أَنْ تَداعَى عليكمُ الأُمَمَ كَمَا تَداعَى الأَكَلَةُ على قَصْعَتِها، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُم يَومَئِذٍ كَثيرٌ، وَلَكِنَكُم غُثَاءٌ كغُثاءِ السَيْلِ، وَلَيَنزِعَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوِكمُ المهَابَةَ مِنْكُم، وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُم الوَهَنْ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الوَهَنَ؟ قَالَ: حُبُ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ».
أيها المسلمون؛ يتحدث الناس اليوم عن كيدٍ كاده الغرب، وبريطانيا بصفة خاصَّة للمسلمين، بمنح اليهود وطناً قومياً لهم على أرض فلسطين، ولعل النَّاس يتحدثون أيضاً عن مكائد الغرب وحقدهم على أمتنا وعلى ديننا من خلال تصرفات تظهر سفاهتهم وحقدهم، كموضوع الرسوم المسيئة، أو الأفلام المسيئة، وغير ذلك من المكائد التي لا تنتهي. بادئ ذي بَدء أقول: هل يتوقع من الغرب غير ذلك ؟ وهل تنتظرون من أمَّة معادية لنا عِداءً تاريخياً، وتحقد علينا حقداً عَقدياً- قبل أن تهيمن عليهم الصهيونية وبعد أن هيمنت عليهم الصهيونية، هل تتوقعون منهم موقفاً عقلانياً مبنياً على مبادئ حقوق الإنسان ومبادئ الأمم المتحدة وغير ذلك من المصطلحات الجوفاء التي وضعت لحماية الصُّهيونية وحماية المعتدين !؟ أمَّا أنتم أيها المسلمون فلستم في الحساب، هل كانت هذه الشعارات الجوفاء إلا غطاءً لهيمنة الصهيونية العالمية على مسار السياسة الدولية ؟ المشكلة ليست فيهم، المشكلة فينا نحن، في أمتنا.. في المسلمين والعرب الذين تركوا دينهم، وبحثوا عن مصالح موهومة في التحالف مع العدو، فيمن رضي أن يكون عدواً لأخيه، حليفاً لعدوه، المشكلة فيمن نبذ حبل الله الذي أمرنا أن نعتصم به )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( كانوا على شفا حفرة من النار، نحن رمينا أنفسنا في النار، نحن قذفنا بأنفسنا في النار، إرضاءً لهم وتوهماً لمصالح غير صحيحة توهمناها على أيديهم، وهل من حاربَنا قرنين من الزمن- الحرب الصليبية- وحاربَنا بعد ذلك بالاستعمار، هل يمكن أن يرتجى منه خير لأمتنا إن لم تكن أمتنا تريد الخير لذاتها ؟ نعم تفرقت كلمتنا، وغدا الكثيرون أدوات طيعة بيد العدو، ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا كذلك ثمناً لكرسي زعامة موهومة مهينة ذليلة، ومصالح كاذبة، وصدق الله إذ قال في حق من ضلَّ الطريق )وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ( وصدق عمر عندما قال: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغير ما أعزنا الله أذلنا الله) فُرقتنا إلى اتجاهات غريبة عن مبادئنا وعن عقيدتنا وعن ديننا؛ تلبيةً لتوجيهات العدو، ولو أننا استيقظنا واستدركنا الأمر وعدنا لحققنا بعض ما نرجو، ولكننا أمعنّا في طريق الغواية، و تابعنا المسير في منهج الضلال، ولو أننا عدنا واستدركنا لأنفسنا إذاً لكان ذلك بداية صحيحة في الطريق لتدارك الأمر، ولكن يبدو أن الكثيرين قد ارتضوا أن يظلوا أدوات ذليلة بيد عدوهم؛ حتى آل الامر بنا إلى ما آل إليه اليوم ؟ هل كان بوسع بلفور أو غيره أن يتصدق بأرض من أقدس أراضي الأمة الإسلامية؛ بل هي أقدس الأراضي بعد الحرمين الشريفين، لو لم يجد هذا العدو القذر أن أمتنا لم تعد أمة يؤبه لها ؟ بل غدت طوع إرادة بريطانيا وفرنسا وغيرهما، وما اتفاقية سايكس بيكو وغيرها من الاتفاقيات إلا ترجمة لقوله ص «تُوشِكُ أَنْ تَداعَى عليكمُ الأُمَمَ كَمَا تَداعَى الأَكَلَةُ على قَصْعَتِها، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُم يَومَئِذٍ كَثيرٌ، وَلَكِنَكُم غُثَاءٌ كغُثاءِ السَيْلِ» لا يؤبه بهم، ولم يجلِ العدو عن أرضنا حتى زرع في أرضنا من يقوم بمهمته فينا، ويقوض مصالحنا تحقيقاً لمصالحهم، ويدمر وحدتنا تحقيقاً لأحلامهم. لم يكن بوسع بلفور ولا غيره أن يَعِد أراذل الخلق في الأرض شذاذ الآفاق أن يزرع لهم في مقدساتنا في فلسطين وطناً قومياً لهم، لو أن تلك الأرض كان عليها حماة يحرسونها، وكان القادة المسلمون مسلمين فعلاً.
كل من تصفح تاريخ تلك المرحلة، يدرك جيداً كيف بيعت الأرض، وظنوا أنهم باعوها مقابل كراسيّ؛ لكن الكراسيَّ لم تدم، أو أنها دامت مع ذل وضع رؤوس أصحاب تلك الكراسي تحت نعال أولئك الأعداء، فطبقت فيهم قراراتهم، ونفذت فيهم مخططاتهم، ها نحن نرى كيف أنهم يسامون الذل والمهانة إثر الذلة والمهانة.
وكيف نستدرك الأمر ؟ نحن ليس بيدنا شيء؟ بل بيدنا كل شيء إذا عدنا إلى ربنا، أقول: ورغم أنف كل من يعارضنا، رغم أنف من يرى أن الدين هو سبب ذلتنا- هو الذليل- قل لهذا الأحمق المهين: الدين سبب عزتنا، احتلتْ مقدساتِنا الصليبيةُ لأننا تمزقنا قرنين من الزمن، وما الذي أعاد المقدسات يومئذ ؟ أليس صلاح الدين الأيوبي ونور الدين الشهيد؟ عندما أعادوا الأمة إلى الإسلام وربوا جيلاً يجاهد بجدية ورجولةٍ الصليبين وحانات الخمر وعاهرات الصليبين في أرضنا، كان كثيرٌ من شبان المسلمين يرتادون حانات الصلبيين في هذه البلاد، وباع الكثيرون الأرض للصلبيين مقابل كرسي موهوم ليقتل هذا البائع؛ لأن من خان أمته لا يُطمأن إليه. ولا أريد أن أستعرض الأسماء عن ذلك الوقت القديم، حتى اجتمع أمر الأمة على قيادة نور الدين الشهيد ومن بعده صلاح الدين الأيوبي وطرد الصليبيين من أرضنا وأعاد فلسطين إلى حكم الأمة الإسلامية، وأعادها حرة كريمة عزيزة، بالإسلام وحده نستطيع أن نستعيد كرامتنا، وعلى الإسلام وحده يمكن أن تجتمع أمتنا، أمَّا على المصالح فها نحن نعاني من فرقة إثر فرقة، ومن تمزق بعد تمزق حتى غدا البيت الواحد مشرذماً وممزقاً.
عندما يكون منا مراجعة للذات، وقراءة للتاريخ وإدراك لبُعد المؤامرة وخطورتها، وكيف أن الغرب الذي وعد اليهود بأرض فلسطين؛ هو نفسه غدا دمية يعبث بها الصهاينة، ويدوسون على مصالحه وينشرون الفساد في أوصال البلاد الغربية، واليقظون من أصحاب الوعي من الغرب يدركون هذه الحقيقة ويحذرونها؛ ولكن ما العمل إذا كانت الدنيا وأهواؤها هي التي تحكمهم؟ وإذا كانت الدنيا وأهواؤنا تحكمنا فليس من سبيل. السبيل أن نعود إلى ربنا، السبيل أن نعود إلى ديننا، السبيل نربي أبناءنا وبناتنا التربية الصحيحة السليمة التي ترفع هاماتهم من أن تنحي إلا لخالقها، والتي تأبى أن يُساوم على كرامتها أو على أرضها أو على حقوقها بمال أو بنساء أو بمناصب. يبحثون عن آخرتهم لا عن دنياهم، ومن بحث عن الآخرة تحققت له الدنيا وتحققت له الآخرة، ومن باع دينه خسر الدنيا وخسر آخرته.
يجب أن نعود إلى بناء تربية أبنائنا وبناتنا، إلى صياغة صحيحة لعلاقاتنا، أن نتعامل مع الأحداث التي تجري من حولنا بوعي لا بغباء ولا بحماقة. ذهب ضحيتها أبناؤنا وشبابنا وها هي الحرب الشرسة التي تشن على بلادنا ما هي إلا حلقة في سلسلة قذرة من المكائد لهذه الأمة ومن المكائد لهذا الوطن، ومن المكائد لهذا الدين، وباسم الدين مزقت حرمات الدين، وباسم الدين دمرت المساجد والمدارس، وباسم الدين قتل العلماء وقتل الدعاة، وباسم الدين حاربوا الدين، هؤلاء لن يكون في مواجهاتهم حلول وهمية، وإنما سيكون في مواجهتهم عودة راشدة إلى حياض الحق، إلى دوحة الشرع الحنيف، إلى التربية القويمة، إلى العقيدة السليمة، إلى الصلة السليمة بالله عزَّ وجل..
أسأل الله أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يفرج عنا وأن يوقظنا من سباتنا، وأن يجعل كيد من يكيدنا في نحر، ومكر من يمكر بنا عائداً عليه. خطبة الجمعة 04/ 11 / 2016 م


تشغيل

صوتي