مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/10/2016

خطبة د. توفيق البوطي: التقوى


التقوى
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( ويقول سبحانه: ) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (ويقول جلَّ: ) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا # وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ( ويقول جلَّ شأنه: )وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا( ويقول سبحانه وتعالى:) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا( ويقول النبي r في حديث رواه الحاكم في المستدرك: «يا أبا ذر؛ اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن» وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي r قال: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تناجشوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه»
أيها المسلمون؛ لو تصفحنا كتاب الله تعالى فإننا لا نكادُ نمرُّ على صفحاتٍ قليلةٍ إلا ونجد التَّأكيد على ضرورة التقوى والتزامها مكَرراً مؤكَداً عليه هنا وهناك، سواء كانت آيات تتعلق بالمعاملات، أم تبيِّن أصول العبادات، أم إنها تتحدث عن طريقة التعامل فيما بين الخلق، دائماً نجد أن كلمة التقوى هي الرصيد الذي يعتبر أساساً للالتزام والتمسك والعمل بمقتضيات ما جاءنا من أوامر أو نواه. وقد عرّف الصالحون التقوى، أو شرحوا مدلولها وآثارها، فابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى يقول في التقوى: (للتقوى ظاهر وباطن، ظاهره محافظة الحدود، أي الوقوف عند النواهي وعدم تجاوزها، والتزام الأوامر، وباطنٌ هو النية والإخلاص ) - أي لله جلَّ شأنه- ، وعندما ننظر إلى التقوى من خلال الآيات التي سمعناها؛ نجد أن التقوى مفتاح السعادة في الدنيا، ومفتاح النجاة في الآخرة، نجد أن التقوى لكل خير يناله المرء في هذه الدنيا، ولكل خير يسعى لبلوغه في الآخرة، بدءاً من العلم إلى بركة الرزق إلى تفريج الهم والغم، إلى دفع البلاء،) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا # وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ( )وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا(،) وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا( فالتقوى مفتاح كل خير.
فما التقوى؟ أصل كلمة التقوى هي من الوقاية وهي الحفظ؛ بأن يحفظ الإنسان نفسه. ويقال اتقى البرد فلبس الثياب التي تحفظه من آفات البرد، واتقى الشوك؛ تجنب إيذاءه وما قد يناله منه من الضرر، أما التقوى في المصطلح الشرعي: فهي التزام أوامر الله عزَّ وجل واجتناب نواهيه فيما يتعلق بحقوق الخلق، وفيما يتعلق بحقوق الخالق. التقوى تبدأ من القلب كما قال النبي r «التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا» ليست التقوى بمظاهر وأشكال وإن كانت المظاهر والأشكال تعبر عن شخصية الإنسان وهويته وانتمائه واتباعه أو مخالفته؛ إلا أن الشكل ليس أساس التقوى، أساس التقوى شعورٌ داخليٌ في القلب بخشية الله عزَّ وجل وبمحبة الله عزَّ وجل وبالرغبة إليه سبحانه وتعالى. التقوى حقيقة ماثلة في كيان الإنسان في قلبه في وجدانه تدفعه إلى التزام الأوامر وتردعه عن ارتكاب المناهي. فإذا ما تحققت صفة التقوى في الإنسان تحققت له السعادة في الدنيا، بكل صورها وأشكالها، كما أشرنا. وإذا لم تتحقق له صفة التقوى تخبط في حياته وضل الطريق وأشقى نفسه، ولم ينل الخير لا من الخلق ولا من الخالق. مفتاح الخير كله أن نتقي الله سبحانه، ولو أننا فكرنا فيما قد أصابنا في هذه الفترة العصيبة من حياتنا؛ لوجدنا أن أهم خطر قد أودى بنا إلى ما قد أودى إليه هو افتقارنا إلى تقوى الله عزَّ وجل، لم نتقِ الله عزَّ وجل في معرفة حق بعضنا إزاء بعضنا، لم نتقِ الله عزَّ وجل في حقوق ولي الأمر وحقوق الرعية، لم نتقِ الله عزَّ وجل في حق أسرتنا وتربية أبنائنا والمحافظة على أعراضنا، لم نتقِ الله عزَّ وجل في الدماء التي سفكت والأعراض التي انتهكت، بسبب تفريطنا وبسبب عدم ادراكنا لما يجب علينا وما يحرم علينا. إن أول درجات التقوى إنما هي العلم، تبدأ التقوى بأن أتعلم، وهذا الدين علم، علم بالعقيدة بأدلتها وبراهينها، وعلم بالشريعة بأحكامها وآدابها وشروطها وأركانها ومندوباتها، علم بما يحل وما يحرم. والذي لا يعلم يتخبط فيما يعمل، على سبيل المثال؛ كم من إنسان ذهب ليؤدي فريضة الحج فرجع مأزور غير مأجور، لماذا؟ السبب في ذلك أنه لم يتعلم، أو تعلم ولم يعمل، وكلا الأمرين قبيح في المرء أن يقع فيه. أن يتعلم هو شرط لصحة العبادة، كثيرٌ منَّا يصلي كما يصلي الناس، لا يعرف الركن من الشرط، ولا يعرف المندوب من المفروض، ولا يعرف المُبطل من المكروه فيقع في تخبط كبير، وهو زاهد في العلم. لو أن أحدنا أراد أن يذهب إلى نزهة في مكان ما، أعتقد أنه في كثير من الأحيان يسأل عن أفضل الأماكن عن الطريق الآمنة، عن المستلزمات من الحاجيات. نزهته عنده في البحث عن أسباب سعادته فيها وراحته وتحقيق هدفه منها أهم عنده من مفتاح الجنة، وسبب النجاة غداً يوم القيامة؛ لأنه ضعيف الإيمان بما سيستقبله، مع أنه يرى قوافل المنتقلين إلى ربهم في كل يوم، يظن أن الحياة مستمرة ويظن أن الأمور سبهللا، وينسى أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وينسى أن اللقمة التي يأكلها سيسأل عنه من أين اكتسبها وكيف استعملها، ينسى حدود الله عزَّ وجل فينتهكها ويتجاوزها غير مبالٍ أو غير مكترث بما ينبغي ان يفهمه ويتعلمه. ما وقعنا في كثير مما وقعنا به إلا نتيجة تفريط وجهل، لابد أن نبين بعض معالم التقوى في حياتنا.
التقوى في العبادات؛ أعني الصلاة والصيام والزكاة والحج.. وسائرَ القربات سواء كانت نفلاً أم كانت فرضاً، أم كانت منذورة، يجب أن نتعلم شروطها وأركانها وآدابها ومبطلاتها. أذكر أن كثيرين لا يدركون أموراً تحبط أجور عبادتهم، كنت لفتّ النظر مرة إلى قضية اتخاذ السترة في الصلاة، لا أكاد أرى في الناس عُشرهم ممن يدرك أن عليه أن يصلي إلى السترة، وأن الصلاة بلا سترة مكروهة -أي يحبط أجرها-، بينما تجد أن أحدنا يصلي في وسط المسجد لا يبالي، والسواري موجودة والجدار أمامه، ويمكن أن يضع شيئاً ما أمامه، هذه مسألةٌ بسيطةٌ جداً؛ لكن هذه المسألة البسيطة يترتب عليها خلل في عبادتك ونقص من أجرك. هذا في جانب العبادات، فضلاً عن أنه قد لا يعلم موجبات الحدث الأكبر أوموجبات الحدث الأصغر، وما يترتب على الحدث الأكبر من وجوب الغسل بأركانه وشروطه، وفي الحدث الأصغر من وجوب الوضوء بأركانه وشروطه، لا نبالي بهذا، ولا نسأل عنه، ومجالس العلم موجودة وموارد المعرفة متوافرة، بلدنا هذا بفضل الله عزَّ وجل مجالس العلم منتشرة في كل أرجائه. نعم أرادوا أن تغلق هذه المجالس وأن تتوقف بالفتنة التي أوقدوها، ولكن الله غالب على أمره. هذه هي الشام التي تكفل الله عزَّ وجل بها، مهما أرادوا أن يصدوا عن سبيل الله وأن يوقدوا نار الفتنة لكي يحولوا بيننا وبين العلم، بيننا وبين المعرفة، وبيننا وبين الدين خسئوا، هذه البلاد قد تكفل الله بها، ولكن كفالة الله بها حجة علينا، فلتكن حجة لنا. حجة علينا بمقدار إهمالنا لمجالس العلم، والنعمة إذا لم نحافظ عليها نفقدها، النعمة إن أهملناها ضيعت )لئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ( هذا في شأن العبادات، أما في قضية المعاملات، فللأسف لا يبالي أحدنا هذه المعاملة صحيحة أو باطلة، إن كانت بيعاً أو كانت رهناً أو إجارة، أو معاملة صرف أو نحو ذلك؛ لا يبالي، مع العلم بأن قضية المعاملات قضية تمس حقوق الخلق، وحقوق الله مبنية على المسامحة، لكن حقوق الخلق مبنية على المشاحَّة، ربنا عزَّ وجل قد يتجاوز عن ذنب فيما بينك وبينه؛ ولكن حقوق الخلق لا يمكن أن يتجاوز لك عنها حتى يسامحك صاحب الحق أو أن يسترد حقه منك غداً يوم القيامة، والمتعاملان على غير أساس صحيح كلاهما ظالم وكلاهما سيحاسبان على ذلك. نحن لا نهتم أو لا نكترث في قضية فقه المعاملات التي تضبط الكسب الحلال وتجنب الكسب الحرام، وتقيك من أن تمد يدك بطريقة غير مشروعة إلى حقوق الخلق، هل اهتممنا بالمعاملات الصحيحة وضبطها والتزام حدود الله فيها ؟ لو أننا رجعنا إلى كتاب الله لوجدنا أن كتاب الله وسنة نبية e فصّلا في المعاملات أكثر مما فصل في العبادات وضبطا التعامل فيما بيننا بكثير من المواطن وبكثير من الصور أكثر مما فصلا في أحكام العبادات، جاءت أحكام العبادات إجمالاً، وجاءت كثير من المعاملات فيها إضاءات تفصيلية. في مسألة حقوق الخلق جملة من صلة رحم، من بر الوالدين، من حق الجوار، من حق الرحم، من الميراث الذي فصله كتاب الله عزَّ وجل تفصيلاً دقيقاً حتى بنسبه الحسابية، وكوَّن بذلك علماً يدرس في المؤسسات التعليمية على مدى عامٍ كامل. هذا كتاب الله يبين لنا ذلك، وتنظر فتجد أننا لا نبالي بأكل أموال اليتامى أو التعدي على حقوق الإناث في ميراثهن، نتجاوز على ذلك كله ونحتال على ذلك كله بأن نرغم المرأة أو الفتاة على التنازل عن حقها شكلياً عند القاضي أو عند الكاتب بالعدل كما يسمى- وقد غدا كاتباً بالظلم في كثير من الأحيان- لا نبالي في ذلك،


تشغيل

صوتي