مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 23/09/2016

خطبة د. توفيق البوطي: الإخلاص


الإخلاص
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( ويقول سبحانه: ) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ( و روى البخاري وأصحاب السنن عن النبي r أنه قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
أيها المسلمون؛ كنت قد أشرت في الأسبوع الماضي إلى أننا بحاجة إلى ثلاثة أمور لتجاوز المأساة أو الحالة المؤلمة التي نعاني منها، والتي طال أمدها، وتركت في مجتمعنا وفي بلادنا أسوأ الآثار. وذكرت منها الإخلاص والفقه في الدين والوعي، واليوم أرجو أن أوفق لعرض معنى الإخلاص.
ذكر العلماء في معنى الإخلاص، قالوا: ( أن يقصد بعمله ونشاطاته وجه الله Y، ويبتغي رضاه والقبول لديه) أي لا يقصد بذلك كسباً مادياً ولا مكانة اجتماعية ولا ثناء من أحد من الناس. يقول ربنا Y في كتابه الكريم في هذا المعنى: )إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا( وقالوا في معنى الإخلاص أيضاً: ( تخليص العمل من كل الشوائب) أي من كل ما يمكن أن يخالط قصد وجه الله U من مقاصد ومصالح دنيوية أو نحوها، وقالوا في معنى الإخلاص: (الإخلاص: نسيان الخلق بدوام النظر إلى الخالق) عندما يكون توجهك إلى الله وحده منصرفاً عما سواه فأنت مخلص، ومتى خالط قصدك رغبة في ثناء من أحد أو مصلحة دنيوية تنالها من أحد فأنت في ذلك غير مخلص.
وأهمية الإخلاص تكمن في أمرين اثنين، الأمر الأول أن الله Y لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، فمتى أراد غير الله بعمله قال له الله U: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك» أي خذ أجرك ممن توجهت بعملك إليه، أما أنا فلا أقبل منك إلا ما كان خالصاً لي: أي لله جلَّ شأنه، والأمر الآخر الذي يدل على مدى أهمية الإخلاص أن أعمالنا وجهودنا وجهادنا ونشاطاتنا لن تبلغ مقاصدها ولن توفق في الوصول إلى أهدافها إلا بمقدار ما يكون الإخلاص رائداً لنا فيها. ذلك أن إمكاناتنا المادية مهما بلغت وقدراتنا ومواهبنا مهما كانت تبقى ضعيفة قاصرة عن الوصول إلى أهدافها بالنظر إلى أهل الدنيا وما يملكونه. ولكن عندما يكون العمل خالصاً لوجه الله فإن الله يوفق لك مسعاك؛ وإن كانت الجهود فيه قليلة. فالقليل في ميزان الإخلاص يصبح كثيراً.
والإخلاص يحول العادة إلى عبادة. عندما يكون لك قصد في أعمالك؛ تبتغي بها وجه الله بشكل مباشر أو غير مباشر، وأوضح ذلك من خلال مثال؛ أنت تأوي إلى فراشك، تقصد بذلك أن تنال قسطاً من الراحة يعينك على صلاة الفجر، أو يعينك على قيام الليل، ويعينك على أداء مسؤولياتك التي كلفك الله U بها، فتنام والملائكة مشغولة بكتابة أجر نومك، أجل أجر نومك! وتأكل وتطعم طيب الطعام وتهنأ بنعم الله التي أكرمك الله U بها، فإن كنت تأكل للتقوي على طاعة الله، وكنت مستذكراً ومستحضراً أن هذه نعمة أكرمك الله بها، انقلبت متعتك تلك إلى طاعة وعبادة؛ تهنأ بطعامك وتنعم بلذيذه، ويكتب لك أجر تمتعك بهذا الطعام. وعندما تكون غافلاً تنقلب العبادة إلى عادة؛ فلا تنال عليها الأجر الذي تبتغيه. عندما تكون كلمة (الحمد لله) كلمة على اللسان لا ترتبط بمعناها وبمعنى الشكر لله U تفقد معناها، ومن ثم فإن الأجر لا يمكن أن يترتب على شيء لم تقصده. وكذلك الصلاة، إذا كنت تصلي لأننا اعتدنا أن نخرج إلى الصلاة، تمارس عادة فيها نوع من الرياضة، فيها نوع من النشاط الاجتماعي لن تنال الأجر على ذلك، تنال الأجر عندما تقول إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. عندما يكون هذا المعنى واضحاً في أذهاننا ندرك مدى خطورة المقاصد الأخرى في عمل يبدو من مظهره أنه عبادة، ولكن المقصد الذي يتطلع إليه صاحبه إنما هو مقصد دنيء، يريد الوصول إلى كرسي الحكم، يريد أن يكوّن لنفسه شعبية، يريد أن ينال مركزاً اجتماعياً، يريد أن يحقق مكاسب مادية، قد يتحقق له ما يريد و لكنه يخسر أمرين، عندما يقف أمام الله U ويقول له: وقفت تتظاهر بالصلاة وأنت إنما تبتغي بذلك مكانة في قلوب الناس! فيطرد من بين يدي الله U، وبدلاً من أن ينال الأجر ينال السخط، وعندما يدعي أنه يجاهد في سبيل الله وهو إنما يبتغي وصولاً إلى مكاسب مادية، والتذرع بذلك إلى تحقيق أحقاد شخصية، أو مطامع اجتماعية أو غير ذلك ستجد أن عمله يصطدم بجدار الفشل، ولن ينال مقاصده لأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم. والأمر مرتبط بشيء آخر وهو الجانب الأهم؛ وهو أن هذا الإنسان هل هو مؤمن بالله؟ لأن الإخلاص لله نتيجة لإيمانه بالله وإيمانه بالوقوف بين يدي الله، إيمانه بأنه غداً سيقف بين يدي الله U يوم تبدو السريرة علانية )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(. أنت تستطيع أن تخدعني وتستطيع أن تخدع الآخرين، ولكن لن تستطيع أن تخدع رب السموات والأرض علام الغيوب، لن تستطيع أن تخدع الله U. وعندما يكون العمل لغير الله تجد نتن سوء النية في ذلك العمل. عندما يدعون أنهم يجاهدون في سبيل الله، ومن أجل ذلك يستعينون بأعداء الله، ويتذرعون للجهاد المزعوم بالتعامل مع أعداء الوطن وأعداء الدين وأعداء الله. انظروا إليهم يدّعون الجهاد في سبيل الله ويتعاملون مع العدو الصهيوني، أيمكن لهذا أن يتحقق له هدف! أم أنه سيوطأ بالنعال في الدنيا، وينال أشد العذاب في الآخرة؟ عندما يدعي أنه يريد أن ينشر الحق والخير والاصلاح، ثم يستعين من أجل الحق والخير والاصلاح بالدول الغربية المتآمرة على بلده، والتي تذل بلدنا وتسومها ألواناً من الظلم والبغي والعدوان، أيمكن أن يتحقق له هدفه؟! سيتحقق له الذل والهوان والهزيمة وسخط الله U.
قضية الإخلاص لله U يميزها أمران اثنان؛ قبلها وبعدها، قد يخيل إلي أنه مخلص لله لكن الإخلاص لله Uمتوقف على أن يكون في قلبه إيمان يدفعه إلى ذلك الإخلاص، وثقة بالله لا بغيره، وتوكل على الله لا على غيره والتجاء إلى الله لا إلى غيره. الأمر الآخر أن يكون لديه من القاعدة العلمية والفقهية ما يصحح به عمله ويضبط به تصرفاته في ميزان الشرع لا في ميزان الهوى. أما عندما يكون الهوى رائداً له فلابد أن يخيل إليه الخطأ صوابا، والمعصية طاعة والإفساد إصلاحاً، أجل يخيل إليه ذلك كله.
دعونا ننظر إلى مظاهر الإخلاص من خلال قدوتنا )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( تعالوا نتأمل الإخلاص في شخصه e؛ أول مظهر من مظاهر الإخلاص في شخصه أن قلبه لم ينطوِ على غلٍ ولا على حقد. كان يرجو لقومه الهداية والنجاة، يرجو لقومه ويتألم لأن قومه يسيرون بأقدامهم إلى هاوية النهار، ولقد أشار إلى ذلك قوله تعالى: )فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا


تشغيل

صوتي