مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 16/09/2016

خطبة د. توفيق البوطي: ثلاثة أمور لا بد منها لتجاوز الفتنة


ثلاثة أمور لا بد منها لتجاوز الفتنة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ( ويقول سبحانه: )قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ( ويقول جلَّ شأنه: )قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ( ويقول جلَّ شأنه: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا.( ويقول النبي r: «ثلاثٌ لا يُغلُّ عليهنَّ قلب المؤمن، إخلاص العمل لله، والطاعة لذوي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين ». ويقول r: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» وقد وصف النبي r «المؤمن بأنه كيّس حذر» وفي رواية «كيّس فطن حذر» ويقول r:« إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، فقلنا: يا رسول الله؛ هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه.»
أيها المسلمون؛ ما أظن أننا بحاجة إلى أن نستذكر مرارة السنوات الخمس العجاف التي مرت بنا، فنحن لانزال نتذوق شدائدها ونتجرع مرارتها، ولكن علينا أن نعود منها بالعبرة التي تجعلنا ننتفع بها في الحاضر والمستقبل، فقد قال ربنا سبحانه:)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ( علينا أن نتدبر الأمر ونفكر ماذا كان ينقص الأمة؟ وما الأسباب التي أوقعت الأمة في هذه المصيبة الجسيمة التي ضربت بيديها ورجليها في أبناء وطننا هذا؟ لماذا جرى بنا هذا الذي جرى؟ نستطيع أن نلخص ذلك بكلمة واحدة )وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير( فما أصابنا إنما أصابنا بسبب منا نحن، ولكن علينا أن نحلل الأمر بعض الشيء، لكي نستدرك في المستقبل ونعود من مصيبتنا إلى واقع نتجاوز فيه هذه المصيبة، ونتمكن من أن نستقبل غداً أكثر أماناً وأكثر خيراً وأكثر صلاحاً.
ثلاثة أمور أقف عندها، وقد لا يتسع المقام لإعطائها حقها، ولكني أضع عناوينها، وأذكر خلاصة عن كل منها لأفصل بعد ذلك. الأمر الأول: إن الهوية التي ينبغي أن نحملها هي الإيمان بالله، والتي تقتضي منا أن يكون عملنا خالصاً لوجه الله، نحن بحاجة إلى أن نتحسس في قلوبنا موضع الإخلاص لله في أعمالنا، وأن لا تكون أعمالنا لمصلحة آنية، لمكاسب مالية، لموقع اجتماعي مرموق، لزعامة نحلم بها، لشهوة نبلغها من خلال نشاطاتنا. فيما إذا كان الإخلاص رائدنا فإنه يغدو ميزاناً لابد أن نزن به الامور قبل أن نقبل عليه، هذا الإخلاص يستلزم وقفة مطولة بعض الشيء؛ لأن الإخلاص سر يودعه الله في قلب من أحب من عباده، والسبيل إلى بلوغ درجة المحبة عند الله لابد من بيانه وتفصيله، لأننا جميعاً بحاجة إليه والمتحدث أفقركم وأحوجكم إليه.
الأمر الثاني مترتب على الأول ومتلازم معه، إنه الفقه في الدين، ومعرفة حكم الله في تصرفاتنا ومواقفنا، لأن معرفة حكم الله عزَّ وجل مع إخلاصنا له عزَّ وجل هو أمر مهم في غاية الأهمية. ولعل مما يدمي القلب أنني وكثيراً منكم كنا في بداية هذه السنوات العجاف نتحدث مع بعض من انخرط في الفتنة، ونقول هذا حلال وهذا حرام، وهذا لا يجوز والله تعالى يقول...، فكان البعض يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً، تقذف به في أودية الردة والكفر. حتى إن أحدهم قال وهو حافظ لكتاب الله:( إذا كان الدين هكذا فلا نريده)!! قيل هذا الكلام وكثير منكم سمعه، فوصل بنا الأمر إلى ما وصل بنا إليه. الدين لا يأمر بسفك الدماء، والدين لا يأمر بالعمالة لإسرائيل، والدين لا يأمر بالتفريط بالأوطان وتقسيم البلاد، والدين لا يأمرك بأن تتخلى عن أخيك من أجل الصهيونية وأمريكا. إذا كان الدين يطلب منه ذلك فهو لا يريد هذا الدين.! هذه هي الردة بعينها، العلم بالشرع والإخلاص لله لا ينفك أحدهما عن الآخر، ويترتب كل منها على الآخر؛ فالإخلاص لله يقتضي معرفة حكمه، ومعرفة حكمه تقتضي منا أن نجدّ في الالتزام به والتمسك به والعمل بمقتضاه.
الأمر الثالث والذي يفتقر إليه الكثيرون وأظن، وأرجو أن لا يكون ظني مخطئاً، أننا أدركنا ضرورته الآن، وأننا شعرنا بمدى أهميته، والذي طالما نبهْنا إليه وحذرنا من مخاطره لكن الكثيرين أعرضوا واستخفوا ولم يبالوا؛ بل استهزؤوا وسخروا. إنه الوعي، وإدراك ما وراء مجريات الأحداث. لقد قيل لنا في بداية الفتنة إن المخطط يستهدف تقسيم سوريا فسخروا من هذا الكلام، وقيل لنا إن المخطط مرسوم من قبل الصهيونية هناك، من قبل عصابة الستة الصهاينة والذين يتزعمهم برنارد ليفي فسخروا من هذا الكلام. وبين أيدينا الوثائق والأدلة، وها نحن نحصد نتائج غبائنا وإعراضنا عن أن يكون لدينا من الوعي ما يلفت أنظارنا إلى خطورة ما يجري، وإلى ما وراء الأكمة فيما يجري. ها نحن أصبحنا موضع نزاع دولي، أصبحت القرارات الدولية هي التي تحدد مسارنا وموقعنا ومستقبلنا، وكان من واجبنا أن نكون نحن أصحاب القرار؛ فنحن الأدرى بما يصلح أمرنا ويصلح مستقبلنا، وها نحن نرى كيف تسعى جهود الآخرين إلى تفتيت وطننا بعد أن فتتوا شعبنا. الوعي، لاحظوا كم نبه ربنا تبارك وتعالى إلى ضرورة الوعي فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ) ونبه إلى ظاهرة النفاق الموجودة منذ عصر النبوة، وحذرنا منها لأن المنافقين أشد خطراً على الأمة من الكفرة. فالكفرة في معسكراتهم ومواقعهم، أما المنافقون فهم من بني جلدتنا، ويلبسون لباسنا وقد يصلون في مساجدنا ويتحدثون بلغتنا ويباروننا في الأمور الدينية، إلا أن قلوبهم منطوية على خيانة.. على عمالة.. على ولاء للعدو ضد الأخ والصديق. الوعي لما يخطط من خلال الأحداث التي تدور من حولنا ولطالما حذرنا، والوعي يقتضي منا أن نقرأ ما وراء الحدث، وأن لا نكون ساحة لتأثير الإعلام القذر الكاذب الذي يريد أن يزجنا في هذا المصير الأسود الذي نراه، كان يفترض بوسائل الإعلام أن تكون ناقلة للخبر. أما أن تتحول وسائل الإعلام كلها إلا القليل القليل منها إلى غرف إدارة عمليات الفتنة التي تجري في بلادنا، أجل كانت غرفة إدارة عمليات، تمارس التضليل وتمارس إحداث الوقيعة فيما بين الأخ وأخيه وتمارس دور التآمر على الوطن والأمة بآن واحد، وهي أدوات كان كبير علمائنا قد بين أنها أداة صهيونية منذ وجدت تلك الوسائل، منذ سبعة عشر عاماً بيّن أنها صناعة صهيونية، وكنا نعرف من الذي أسسها ومن الذي صنعها، ولماذا صنعت ولقد أدت دوراً كاملاً في خدمة الهدف الذي وجدت من أجله. وهل كان لدينا من الوعي ما يدفع بنا إلى الحذر؟ لا، بل كنا نسخر من النصيحة الواعية ونستخف بها.
ثلاثة أمور نحن بأشد الحاجة إليها لا ينفصل الواحد منها عن الآخر، الوعي بدون علم ولا إخلاص يمكن أن يحول صاحبه إلى أداة بيد الأجنبي من حيث يدري لا من حيث لا يدري، وكثيرون هم أداة بيد الأجنبي بما باع به نفسه من مال، أو بما وعد به من موقع ومنصب، وكثيرون آفتهم الجهل، وآفتهم الغباء.
أيها المسلمون؛ الإخلاص لله جلَّ شأنه، كما قال العلماء، سر يقذفه الله تعالى في قلب من أحب من عباده. فهل من سبيل إلى أن نكون من أحباء الله، وكيف يمكن أن يكون العبد محبوباً عند الله ومحباً لله؟ إذا كنت محباً لله فذلك دليل على أن الله يحبك، ودليل محبة الله أن تؤثر أمر الله على أمر نفسك وشهوة ذاتك، وأن تؤثر أمر الله عزَّ وجل على أي أمر آخر مهما كان مصدره. وأن يكون قلبك وعاء لذكر الله.. لمخافة الله.. للحياء من الله، وهذا يستلزم مجاهدة قد يطول الحديث فيها؛ لكن لابد لكل منا أن يجتهد في سبيل أن ينال تلك الدرجة التي وصف الله بها أصحابها فقال: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). ولعل من أهم أسباب محبة العبد لله عزَّ وجل كثرة ذكره والتدبر في آلائه وشكر نعمه ومتابعة تلاوة كتابه بتدبر وخشوع، وأن يقوم في الأسحار يخلو إلى الله، ويتصور الوقفة بين يديه غداً ليس بينه وبين الله ترجمان، يوم تبدو السريرة علانية. يجدد العهد مع الله في كل ليلة، ويضع بين يديه عجزه وفقره واعترافه بذنبه وتقصيره، ويجتهد في التوبة والإنابة لله ويصدق في عزيمة الإنابة لله عزَّ وجل، فإذا ما جدد العبد في كل يوم ذلك العهد بينه وبين الله عزَّ وجل دل ذلك على أنه محبوب عند الله، أما إذا حرم فليبكِ على نفسه، وليبحث عن سبب حرمانه، ولعل صلاة الفجر جماعة في المسجد مظهر من مظاهر محبة الله، لأن هذه مائدة لا يدعى إليها إلا المحبوب... إلا المرضيّ، ولذك يجتهد المخلص لله عزَّ وجل في الحرص على صلاة الفجر جماعة وعلى الإكثار من ذكر الله، ألم يقل الله تعالى: )وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ( ألم يقل الله تعالى: )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ( إذا ذكرته ذكرك، من يذكرك؟ رب السموات والأرض يذكرك في الملأ الأعلى لأنك ذكرته، وأي شرف وأي مكانة يحلم بها مخلوق في الدنيا أن يذكره رب السموات والأرض في ملئه الأعلى ثناء عليه وحباً له، ألا تحرص على أن تكون محبوباً عند الله! إذا وثقت صلتك بالله وراقبت الله عزَّ وجل في كل عمل لك فجعلته في ميزان شرعه وفي ميزان حكمه. وبحثت عنه أهو مقبول عند الله أم لا؟ فكنت حريصاً عليه أن يكون موافقاً لشرع الله عندئذٍ أنت محبوب عند الله، عندئذٍ يمكن لعملك أن يكون على جادة الإخلاص ويمكن لعملك أن يثمر وأن يكون من المقبولين عند الل


تشغيل

صوتي