مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 09/09/2016

خطبة د. توفيق البوطي: الأضحية والتضحية



الأضحية والتضحية
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ # فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ # إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ( ويقول جلَّ شأنه عن سيدنا ابراهيم وولده اسماعيل: )فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ # فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ # وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ # قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ # إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ # وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ( وروى البخاري عن البراء بن عازب t، قال: خطبنا النبي r يوم النحر فقال: «إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي – صلاة العيد- ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا» أشار بذلك إلى عدم صحة الأضحية قبل صلاة العيد، وروى عبد الرزاق في مصنفه عن عائشة رضي عنها أن النبي r قال: «ضحوا وطيبوا بها أنفسكم فإنه ليس من مسلم يوجه أضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وفرثها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة» وثبت في الصحيحين أن النبي r ضحى بكبشين أقرنين أملحين.
أيها المسلمون؛ ذهب كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى: (الكوثر) معناه الخير الكثير والنعم الجليلة التي أنعم الله تعالى بها على نبيه r ومنها الحوض الذي سيرد عليه المؤمنون يوم القيامة إن شاء الله، وان الأمر بالنحر يشير إلى الأضحية شكراً لله تعالى، وقد ثبت وجوب أو سنية الأضحية – الحنفية قالوا بوجوبها، والجمهور قالوا بسنيتها – للقادر عليها بالأحاديث الصحيحة، واشترط النبي r ،كما أشرت قبل قليل، أن يبدأ وقتها من بعد صلاة العيد، ويستمر حتى ما قبل غروب شمس آخر أيام التشريق، أي آخر أيام العيد الأضحى، وروى الشيخان في صحيحيهما ما ذكرته آنفاً أن النبي r ضحى بكبشين ذبحهما بنفسه r، وشرط الأضحية أن تكون قد أتمت خمس سنوات إن كانت من الإبل، وسنتين إن كانت من البقر أو الماعز، وسنة إن كانت من الغنم، وتجزئ إن كانت من الإبل أو البقر عن سبعة، ويشترط أن تكون الأضحية سليمة من أي عيب ينقص من لحمها، فلا تجزئ العمياء ولا العرجاء ولا الهزيلة ولا المريضة مرضاً مفسداً للحمها، ولا مقطوعة الأذن أو جزء منها، أو من أي جزء من أجزائها، ويجب التصدق بجزء منها وإن قل، لكن الأفضل أن يقسمها أثلاثاً، ثلثاً لأهله وثلثاً يهديه لأصدقائه ولو كانوا أغنياء، وثلثاً يتصدق به، ولو تصدق بها جميعها لكان أفضل. لكن يسن أن يأكل منها، أما إن كانت منذورة فلا يجوز له أن يأكل منها، ولا أن يطعم منها من تجب عليه نفقتهم، أي من زوجته وأولاده وأبويه.
ومعنى الأضحية؛[ أي الحكمة من تشريعها] أقف عند مسألة الأضحية لأشير إلى الربط فيما بينها وبين رؤيا سيدنا ابراهيم r إذ قال ربنا تبارك وتعالى عن سيدنا ابراهيم أنه قال لولده )إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى( أمره الله بأن يضحي بولده وأعلن ولده الطواعية والامتثال وقال: )قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ( ستجدني مطواعاً صابراً على ما أمرني الله عزَّ وجل به )فَلَمَّا أَسْلَمَا( كلٌ منهما انقاد لأمر الله عزَّ وجل بالتضحية )وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ( أعده للذبح عندئذٍ: )وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ # قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ( قد امتثلت للأمر الذي جاءك في الرؤيا ورؤيا الأنبياء حق )وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ( فداه الله عزَّ وجل بكبش عظيم.
إنها التضحية! وإذا كان ابراهيم عليه الصلاة والسلام قد أُمر بأن يضحي بولده، وفي هذا أمر للولد بأن يمتثل فامتثل، فإن هذه الأمة مدعوة لأن تضحي بالغالي والرخيص دفاعاً عن دينها دفاعاً عن مبادئها دفاعها عن قيمها، دفاعاً عن أعراضها، دفاعاً عن دينها من أن يشوه بما ترتكبه تلك العصابات التي تدعي أنها مسلمة وهي تنحر الإسلام بجرائمها، وهي تشوه الإسلام بجرائمها، تنسب إلى الإسلام ما نهى عنه الإسلام، وترتكب الفظائع باسم الإسلام تشويهاً لهذا الإسلام. وطبعاً هم الصوت والغرب الصدى، أو لعل الصوت من الغرب وهم الصدى، لأنهما شريكان في محاربة إسلامنا، ومحاربة ديننا ومحاربة القيم الأخلاقية التي نزل الإسلام بها.
نحن اليوم مدعوون لأن نضحي للحفاظ على سلامة أمتنا وسلامة أعراضنا، وسلامة وطننا، بعد أن نضحي في سبيل سلامة ديننا ودفاعاً عن حقائقه التي غدت اليوم مشوهة بأيدي هؤلاء، الذين يدعون أنهم مسلمون بينما هم يشوهون حقائق الإسلام، فإن امتثلنا لداعي التضحية انتصرنا. وقد امتثلت أمتنا وامتثل شعبنا وبذل الكثير، إلا أن شيئاً مهماً جداً ينبغي أن يتوج هذا الامتثال وهو الإخلاص لله عزَّ وجل، وهو العودة الراشدة إلى الله U لأن الإسلام كل لا يتجزأ، ولأن التضحية إنما تكون بالطاعة )قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ( الابن قال لأبيه افعل ما تؤمر، ونحن اليوم نقول: نعم لبيك يا رب أمرتنا بأن نبذل، وها نحن قد وضعنا أرواحنا رهن أمرك امتثالاً لما أوجبت علينا من الدفاع عن سلامة ديننا وسلامة مبادئنا وسلامة وطننا ودفاعاً عن أعراضنا وعن دماء أطفالنا ونسائنا. نعم، نحن نعلم أن التضحية لا نهاية لها فلئن ضحى سيدنا ابراهيم بولده فقد سبق أن ضحى بنفسه عندما وقف في وجه الطاغوت النمرود ووقف في وجه الوثنية والخرافة والترهات فألقي في النار وجعل الله تعالى النار التي ألقي فيها برداً وسلاما، كما فدى ولده بذبح عظيم، ولقد امتثل أيضاً سيدنا ابراهيم r عندما استجاب لأمر الله تعالى فترك ولده وزوجته بوادٍ غير ذي زرع عند بيته المحرم، فجعل ذلك المكان موطناً للأمن والأمان والسلامة والطمأنينة، فجعل البيت الحرام أمناً للناس، حقن فيه الدماء ومنع فيه أن يؤذى حتى الحيوان فلا صيد ولا يعضد شجره ولا تسفك فيه الدماء.
إن تضحية سيدنا ابراهيم عليه الصلاة والسلام نستمد منها حوافز التضحية اليوم دفاعاً عن الحق ودفاعاً عن الدين، ودفاعاً عن الأخلاق ودفاعاً عن الحرمات التي يجب أن ندافع عنها. على أننا نقول لابد من صدق العودة إلى الله سبحانه وتعالى لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم بشأن ما جرى في غزوة أحد: )وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ( أي وعدنا بالنصر وصدق وعده: )إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ( انقذفوا إلى الغنائم مخالفين أمر رسول الله r فكانت النتيجة الهزيمة في ذلك الموقف حتى قتل منهم سبعون، وشج رسول الله r ودمي وجهه؛ نتيجة تلك المعصية. اليوم نحن مدعون للتضحية، ولكننا مدعوون في الوقت نفسه إلى أن نحذر المعصية أشد من حذرنا من عدونا، فالمعصية خطيرة علينا أشد من خطر العدو علينا، عدونا يمكن أن يوطأ بأحذية جيشنا إذا تجنب جيشنا وتجنبت أمتنا معصية الله سبحانه وتعالى، والتزمت طاعته فلم يتعدَّ بعضهم على حقوق بعض، إذا وقفوا عند الحدود التي رسمها الله عزَّ وجل فدافع كل منهم عن حقه وعن حق أخيه، وحافظ على حق إخوانه وأبناء أمته. نحن اليوم نضحي ليس من أجل أن نكتسب ولكن من أجل أن ندافع عن الحقوق، عن حقوقنا وحقوق أب


تشغيل

صوتي