مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/07/2016

خطبة د. توفيق البوطي: ومضات من السيرة "سياسة المفاوضات"



ومضات من السيرة
"سياسة المفاوضات"
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ( وقال سبحانه:) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( وقال r: «من رغب عن سنتي فليس مني» وإذا كانت سيرة النبي r الصورة العملية لسنته؛ فإن علينا أن نأتسي به ونلتزم هديه في سيرته، لذلك فإننا سنستعرض إن شاء الله مشاهد من سيرته العطرة ونتأملها لنجعلها منهجاً لنا في دعوتنا وفي حياتنا وفي علاقاتنا وفي تربيتنا لأولادنا وسائر شؤوننا؛ لأنه الأسوة الحسنة، تستوقفني هنا مشاهد لن أستفيض فيها، ولكنني سأتوقف عند بعضها وقفة سريعة.
عندما دعا النبي r إلى الإسلام كانت دعوته بالنسبة للمشركين منعطفاً خطيراً، وزلزالاً هز تفكيرهم وأوضاعهم وعلاقاتهم، فالنبي r دعا إلى تحكيم العقل وإلى نبذ التقاليد والتبعية، وإلى أن نفكر ملياً فيما نعتقد وفيما نفعل وفيما نتصرف. دعاهم إلى نبذ الخرافة ورفض الوثنية، وتوحيد الله عزَّ وجل، محتجاً بالأدلة والبراهين الملزمة. لكن طغاة مكة لم يعجبهم ذلك؛ لأن ذلك خطر على مواقعهم وعلى تحكمهم بالرعاع من قريش. لذلك حاولوا معه فاضطهدوه، واضطهدوا أصحابه واستهزأوا به وقاوموه، إلى أن لجأوا إلى أسلوب المفاوضات وطلب تقديم التنازلات، وهو منطق يمكن أن يجري في المواقف السياسية؛ ولكنه لا يمكن أن يتم بالنسبة لرسالة إلهية كلف النبي r بحملها. جاءه عتبة بن ربيعة بمشاورة من زعماء مكة وعرض على النبي r المال، وعرض عليه الملك؛ فقال: (وإن شئت ملكناك علينا) وعرض عليه السيادة بحيث لا يقطعون أمراً دونه. ولكن النبي r لم يكن طالب ملك ولا مبتغي مال، ولم يكن يطلب فيهم أن يسوّد عليهم، إنما كان حاملاً لرسالة ربانية. فبعد أن انتهى عتبة من حديثه قال له: "يا أبا الوليد فرغت؟" قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل "فقرأ النبي r صدراً من سورة فصلت السجدة، إلى أن وصل إلى قوله تعالى ) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( فاستبد الخوف بعتبة، ووضع يده على فم النبي r وقال له: (ناشدتك الله والرحم إلا سكت) ثم مضى إلى قريش ينصحهم أن يتركوا محمداً وشأنه، فإن انتصر فعزه عزهم، و إن قتلته العرب فقد كُفوا أمره. المشهد الثاني: هو مشهد رسالة النبي r إلى هرقل، ومثلها وبالنص نفسه وجه إلى كسرى وإلى سائر الملوك المجاورين لجزيرة العرب: [ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، إلى كسرى عظيم الفرس، إلى النجاشي عظيم الحبشة، بهذه الصيغة المهذبة الراقية خاطب أولئك الملوك، ومثلها إلى المقوقس وإلى عظيم البحرين وغيرهم، خاطبهم بماذا؟ أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين – أجرك وأجر أمتك الذين يتبعونك، فإن أعرضت فإن عليك إثم الأريسيين، الرعية الذين كان يحكمهم، هو يتحمل وزرهم ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ( إلى نهاية الرسالة، هل طلب النبي r من هرقل أو المقوقس أو كسرى التنازل عن العرش له أو لغيره؟ هل قال له ارحل؟ هل نازعه ملكه؟ أم عرض عليه مبدأ الهداية! الدعوة إلى الله، الدعوة إلى منهج الله، الدعوة إلى الهدى، الدعوة إلى تحكيم العقل في بناء الحياة والسلوك والتصرف. فالدعوة الإسلامية لا تبدأ من كرسي الحكم، وإنما تبدأ من عقول وقلوب الناس، بهدايتهم، بإرشادهم، بنقلهم من سبيل التشتت والضياع إلى سبيل الرشاد والهدى، هذا هو الأسلوب الذي كان عليه رسول الله r، لكن أناساً اليوم يريدون أن يبدؤوا من كرسي الحكم لأنه مغرٍ، ولأنه وسيلة لتحقيق كثيرٍ من الأحلام والمطامع، فهم جعلوا الوسيلة غاية والغاية وسيلة. لا أريد أن أسترسل فهناك أمر مهم سأتحدث حوله، وأرجئ الحديث عن تلك المشاهد وتحليلها إلى أيام قادمة إن شاء الله تعالى.
أريد أن أنتقل إلى موضوع خطير، كلكم يستشعر خطره، وكلكم يعاني منه. خمس سنوات ونصف ونحن نعاني من فتنة داهية سوداء، طافت ببلدنا فقُتل بها من قُتل، وشُرّد فيها من شرد، وفُقد فيها من فقد. بل هناك حالة من الضياع التي أصابت هذه الأمة ممنهجة جعلت كثيرين من أبناء وطننا يذهبون إلى الملاجئ إلى المخيمات، ثم تطور الأمر إلى أكثر من ذلك، فلجأوا إلى من رسم هذا المخطط وارتموا في أحضانهم. تأتيني الرسائل إثر الرسائل عن حالة الضياع التي يعاني منها من هاجروا إلى أوربة، حالة الردة في العقيدة، حالة الضياع في الأعراض والأخلاق، حالة التفسخ والتشرد وانهيار الأسرة التي وصلوا إليها.
خمس سنوات ونصف ونحن نعاني، والأشد من ذلك أن الرايات العمّية التي طالما حذرنا منها هي اليوم يقتل بعضها أبناء بعض، يصطرعون، يتنازعون، يخوّن بعضهم بعضاً ويكفّر بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا، إنه يوم أسود ذلك اليوم الذي بدأت فيه هذه الفتنة لتجعل بلادنا في حالة من الضياع والمآسي، انهار الوطن، انهار الاقتصاد، هدمت البنية التحتية لكثير من أجزاء بلادنا، دخل الأغراب وأعملوا سيوف القتل في أبناء هذا الوطن، كل ذلك تحت اسم الإصلاح أو تحت اسم الجهاد في سبيل الله.! حالة لا أظن عاقلاً لا يزال يقتنع بطروحاتها المعلنة على وسائل الإعلام، أو المعلنة على أفواه أصحابها. فهي فتنة وليس أكثر، فتنة ذهبنا ضحيتها، وانتشرت الكراهية بين أبناء وطننا ولا تزال. الذين أوقدوا هذه الفتنة وأوقدوا نارها، لايزالون في فنادقهم أو قصورهم خارج سوريا يتمتعون بأسباب العيش الرغد، ولكنهم في الوقت نفسه ينفخون في نار هذه الفتنة ويمعنون في إحراق هذا الوطن وتدمير هذه الأمة.
واليوم مبادرة مباركة نأمل أن تكون سبباً أو باباً ومخرجاً لهذه الأمة من هذه الحالة البائسة التي نعاني منها. إنه المرسوم الذي صدر، والذي يدعو هؤلاء الذين تاهوا في الطريق ووقعوا في مخطط تدمير وطنهم، وهم من أبناء هذا الوطن، منهم أخوك وابن عمك وجارك، هؤلاء أبناء وطننا ضلّلهم أهل الفتنة المتآمرون على هذا البلد، المطلب الذي طُلب منهم بهذا المرسوم أن يلقوا السلاح ويعودوا آمنين مطمئنين إلى مصانعهم إلى حقولهم إلى وظائفهم إلى دوائرهم إلى قطعاتهم العسكرية آمنين مطمئنين. هذا العرض فرصة ثمينة آمل أن تكون بوابة لخروج بلادنا من فتنة داهية دهماء، نحن اليوم أمام منعطف ينبغي أن نراجع فيه أنفسنا. كثيرون في مبادرات سابقة ألقوا السلاح وعادوا إلى حياتهم الطبيعية، وهذا شيء مشاهد، قرى ومناطق وأفراد ألقوا سلاحهم وعادوا إلى حياتهم الطبيعية، شاهدنا ذلك وعرفنا الكثيرين منهم، آن الأوان إلى أن نعود أسرة واحدة في هذا الوطن، لنبني ما هدم، ونعيد العلاقات على أساس المودة والتلاحم والتعاون تحت ظل ) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(
انبذوا الدعوة إلى إفساد ذات البين، الله يأمرنا أن نصلح ذات بيننا، وأهل الفتنة يدعوننا أن نفسد ذات بيننا. الله يأمرنا بالصلح، قال: )وَالصُّلْحُ خَيْرٌ( فلماذا الإمعان في محاولات بائسة لنشر حالة الكراهية والاقتتال البيني بين أبناء الوطن الواحد، وأبناء الدين الواحد، وأبناء الحي الواحد، بل وأبناء البيت الواحد، لماذا؟ ولمصلحة من؟ من المستفيد غير إسرائيل؟ هدف هذه المؤامرة كلها حيث كانت من بلادنا أو غيرها توفير أمن إسرائيل، وضياع مجتمعنا وانهيار اقتصادنا ودمار وطننا. ولذلك أما وإن الأمور تتجه إيجابياً -بفضل الله تبارك وتعالى- وسيكون لهذا التقدم خطوات أكثر إيجابية إن شاء الله. آمل أن تكون هذه الفرصة فرصة مفيدة تعيد لوطننا أمانه، ولأبنائه المودة والمحبة فيما بينهم، لنعيد نسيج التعاون فيما بين أبناء الوطن الواحد، وفيما بين أبناء الحي الواحد، لإعادة بناء ما تهدم، ولتعود الألفة والمحبة إلى البيت الواحد. كفى أن يحقق ابليس فينا ظنه، ابليس ومَن وراءه إنما يريدون منا أن نقتتل )إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا(. وابليس يتمثل بأميركا، يتمثل بالدول الداعمة للإرهاب في وطننا، يتمثل بأم الخبائث إسرائيل. ونحن أعتقد أننا قد وصلنا إلى قناعة بأننا أصبحنا أدرى بمصلحتنا، وأدرى بما يحقق ازدهار وطننا وصلاح شأننا، وعودة الأمن والأمان والاستقرار والألفة والمحبة بين أبناء هذا الوطن.
أسأل الله أن يفرج عنا فرجاً قريباً، وأن يعيد إلى وطننا الأمن والأمان والطمأنينة، وأن يلهم الجميع أن يسهموا إسهاماً صادقاً في تحقيق هذه المبادرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2016/07/29


تشغيل

صوتي