مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/07/2016

خطبة عيد الفطر لـ د. محمد توفيق رمضان البوطي


لعلكم تتقون
خطبة عيد الفطر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
الله أكبر ما صام صائم وقام في ليالي هذا الشهر، وسبح لله وحمده وكبر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
الله أكبر ما نظر الله تعالى إلى عباده يصومون مع شدة الظمأ ويقومون مع شدة التعب، ويتنعمون بتلاوة كتابه فرحم وعفى وأعطى وأجزل وأكثر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
الله أكبر ما رحم المسلم إخوانه، وواصل بالزيارة والعطاء والتراحم والتسامح وتجاوز وغفر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
مضى شهر رمضان، بعد ثلاثين يوماً تزاحمت فيه مناكب المصلين في بيوت الله لقيام لياليه في التراويح وتلاوة القرآن، وتسابق المحسنون في تقديم ما يسّره الله عندهم لإخوانهم من خير أكرمهم الله عزَّ وجل به، مضى رمضان لكن آثاره يجب أن تبقى دليلاً على أن معاني هذا الشهر دخلت القلوب وغيرت النفوس وأكسبت المؤمنين التقوى، التي كانت هدية هذا الشهر.
علامة قبول العبادة أيها المسلمون، أن يغدو المرء بعدها خيراً مما كان قبلها، فالصلاة كما وصفها الله عزَّ وجل: )إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ( ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا خير في صلاته، والصوم سبب لارتقاء المسلم إلى سدة التقوى، ألم يقل الله عزَّ وجل: )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( والتقوى صفة جامعة لمعاني الانضباط بالخير والإقلاع عن الشر والالتزام بالأوامر والاجتناب للنواهي، التقوى حالة شعورية يرتقي فيها الإنسان المؤمن إلى محبة الله، إلى مخافة الله، يرق فيها قلبه لذكر الله، يخشع فيها قلبه لآيات الله، التقوى حالة شعورية، وحالة سلوكية يرتقي فيها الإنسان المؤمن إلى سدة رفيعة من السمو في أخلاقه وسلوكه وتصرفاته. هذا ما ينبغي أن يكون نتيجة هذا الشهر بعد ثلاثين يوماً أمضيناها صائمين قائمين، متصدقين متواصلين متراحمين، إن أثر هذا الصوم أو أثر هذا الشهر ينبغي أن نلمسه في حياة الأفراد وفي علاقات المجتمع.
أما الأفراد فينبغي كما أشرت أن يصبح المرء منا أشدَّ التزاماً وأرق قلباً، وأكثر إقبالاً على الطاعات والقربات، وأشدَّ حَذراً من الوقوع في المخالفات، أَلم يقل الله تعالى:)وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ # الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ # وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ # أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ( ينبغي أن يعود كل منا إلى نفسه، هل ارتقى إلى تلك الصفة؟ هل وصل إلى تلك المثابة؟ إن لم يكن فليجتهد حتى يصل، لأنه إنما ينجو يوم القيامة المتقون.
أما المجتمع فينبغي أن يغدو أشد تماسكاً وتراحماً وتعاوناً وتلاحماً وتناصحاً، بالحكمة والموعظة الحسنة، مجتمعنا ينبغي أن يعود إلى نفسه فيراجع ذاته، ليصلح من أوضاعه، ويقوّم من اعوجاجه، وليتواصل أبناؤه تواصل التحابب والتعاطف والتعاون والتناصح، فالإسلام دينٌ قام لكي تتماسك العلاقات الاجتماعية فيه، يدور الحكم الشرعي دائما مع توطيد العلاقات الاجتماعية، وبث مشاعر المحبة والإخوة والتعاون بين أبناء المجتمع، فالصلاة في المسجد، والصيام يثير مشاعر الرحمة نحو الفقراء والمساكين والتقوى لله سبحانه وتعالى، تدفع إلى مزيدٍ من البذل للإخوة المحتاجين، والزكاة واجبٌ اجتماعيٌ فيه بذل المال من القادر لذوي الفاقة، هذا الإسلام، إسلامنا بناء للمجتمع على أسس المحبة والتعاون والتماسك والتعاضد، وكل جهد يهدف إلى تمزيق هذا المجتمع هو جهد مدمر في ميزان الإسلام، يحاربه الإسلام ويناهضه، والله سبحانه وتعالى يقول:)إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا( إن محاولة تفتيت المجتمع جهدٌ يبذله الشيطان وجنوده وأتباعه لكي يثيروا مشاعر الكراهية بين أبناء المجتمع والتناقضات والفرقة والعداء بين أطياف المجتمع، لا ينبغي أن نقع في مخططات تهدف إلى تفتيت بنائنا الاجتماعي، وإضعاف روابط المجتمع الإسلامي الذي تفيأنا ظلاله بالتحابب والتعاون والتوادد، فما ينبغي أن ينقلب ذلك إلى تقاطع وتدابر وعداء و كراهية. لابد من العودة إلى الذات، فنحن نعاني اليوم أزمة وما ينبغي أن ننسى آلامنا، وآلام أبناء مجتمعنا نتيجة مؤامرة مضى على اشتعال نارها في بلادنا خمس سنوات ونيف، دمرت وسفكت الدماء وشردت وأصابتنا إصابات أليمة جداً، ما ينبغي أن ننسى آلامنا، والله سبحانه وتعالى يأمرنا أن نعود إلى أنفسنا وننظر في أسباب ذلك في أنفسنا، والله سبحانه وتعالى يقول: )وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ# فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا...( رجعوا إلى الله والتجؤوا إليه ورفعوا الأكف الصادقة إلى الله عزَّوجل تائبين، متضرعين مبتهلين أن يكشف الله عنا هذه الغمة، وأن يصرف عنا هذا البلاء )فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( نخشى من النتيجة الأخرى،إذ يقول: ) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ # فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين(
في المقابل وصف النبي r المجتمع اليقظ المجتمع العائد إلى ربه، المجتمع الذي عرف طريق الخير، عن النعمان بن بشير t فيما رواه مسلم، قال: قال رسول الله r: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» هذا ما ينبغي أن يكون عليه مجتمعنا، نتألم لألم بعضنا، نخفف عن بعضنا، نساعد بعضنا، ننهض بالضعيف منا، ولا نستغل الأزمة لمزيد من الإيلام للمحتاجين، ما ينبغي أن تتحول الأزمة إلى سبب إلى الاستغلال والجشع؛ بل ينبغي أن تكون الأزمة سبباً لتخفيف الألم عن إخواننا والرحمة بحالهم وشأنهم.
إنك لا تدري.. نعم أنت اليوم على بساط النعمة وقد ينسحب هذا البساط من تحتك كما انسحب من تحت أخيك، فارفق بأخيك لأنك إن نظرت في حال أخيك كان ذلك سببا لرحمة الله بك أنت، وسبباً لإحسان الله تعالى إليك، والنبي r يقول: «من لا يَرحم لا يُرحم»، ويقول: «الراحمون يرحمهم الرحمن» ، «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
وبعد، فلا يسعني أن أتجاهل تلك الجريمة البشعة التي ارتكبت في مدينة رسول الله r وهي حرم آمن، يقول النبي r فيما رواه البخاري، عندما كان داخلاً إلى المدينة مارَّاً إلى أحد: «هذا أحد جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن ابراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها» - أي أن الدماء فيها آمنة، حتى الحيوانات فيها آمنة_ فكيف يرتكب هؤلاء المجرمون جريمتهم في المدينة المنورة على مقربة من رسول الله r؟ هؤلاء مجرمون دربتهم قوى الطغيان الكافرة في إسرائيل وأمريكا، وأعدتهم لمناهضة الإسلام ومحاربته في عقر داره، وباسم الإسلام يحاربون الإسلام، وهنا أستذكر معكم ما قبل خمس سنوات، يوم كنا نحذر من فتنة لن نستطيع ولن يستطيع الموغلون فيها إذا ما وضع أقدامهم في منعطفها أن يتماسكوا في منحدرها، إنها نفق مظلم يودي بالأمة إلى نتائج مدمرة، وهاهم أولئك الذين رعوا ودافعوا عن الفتنة بدأت أيديهم تحترق بها، وإنه ليؤلمنا أن يموت مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض، وإنه ليغضبنا ويثير حفيظتنا ويثير التغيظ في قلوبنا والأسى أن تنتهك حرمة المدينة المنورة على أيدي هؤلاء المجرمين، المخطط الذي رسمه برنالد ليفي وأصحابه من المتآمرين على ديننا وعلى وطننا وعلى أمتنا وسار الأغبياء في ركب مؤامرته، يظنون أنهم سيحصدون الحرية وما حصدوا إلا الموت، وما حصدوا إلا الذل، وما حصدوا إلا التشرد، أقول: علينا أن نستيقظ وأن نعود إلى هدي نبينا في تجنب الفتن وعدم الوقوع في مستنقعاتها، هذه المؤامرة تهدف إلى تدمير المنطقة وتشويه الإسلام، ثم التخلص من تلك القطعان البشرية التي زجت لتنفيذ تلك المؤامرة. وها نحن نرى كيف أنهم بدأوا بالمرحلة الثالثة منها، نقول: إن انتهاك حرمة المدينة المنورة هو امتداد بشع وإيغالٌ في محاربة الإسلام، وللأسف وباسم الإسلام. أسأل الله تعالى أن يكشف عن الأمة هذه المصائب، وأن يعيد الأمن والأمان والسلام والطمأنينة إلى البلاد والعباد، وأن يكف أيدي الطغاة البغاة المفسدين في الأرض، وأن يجعلهم نكالاً، وفرج الله تعالى عن الأمة وحفظ الله تعالى البلاد كلها، لاسيما الحرمين الشريفين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم لسائر المسلمين


تشغيل

صوتي