مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 08/07/2016

خطبة د. توفيق البوطي: الأمانة


الأمانة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا( وقال سبحانه: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا( وروى الحاكم والترمذي عن أبي هريرة t قال قال رسول الله r: «أدِ الأَمَانَةَ إلى مَنْ ائتمنك ولا تخن مَن خَانَك»، وروى الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص t أن النبي r قال: « أربعٌ من كنَّ فيه كانَ منافقاً خالصاً، ومَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِفَاقِ حَتى يَدعهُا، إذا اؤتُمنَ خَان, وإذا حَدَّثَ كَذَبْ، وإذِا عَاهَدَ غَدَر، وإذَا خَاصَمَ فَجَر».
أيها المسلمون، أداء الأمانة أصلٌ عظيم من أصول ديننا، وصفةٌ ملازمةٌ للدين في شرعنا، وهي ليست مجرد مال تضعه عند إنسان تثق به ليحفظه لك، الأمانة كما ذكر المفسرون لقوله تعالى )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ( جميع التكاليف والفرائض والحقوق التي كلف الإنسان بها، وبذلك تكون أنت أمانة في عنق نفسك، وجوارحك أمانة أنت مسؤول عنها، أن ترعاها وأن تستعملها الاستعمال الصحيح، وأسرتك أمانة، أبواك أمانة فتبرهما، وزوجتك أمانة فتؤديها حقها وتوجهها الوجهة الصالحة وتحسن معاشرتها، وأولادك أمانة فتربيهم على الفضائل وتعطيهم حقهم من النفقة والتربية والرعاية وحسن المعاملة، وأقرباؤك أمانة تصلهم على النحو الذي يرضي الله عزَّ وجل، ومالك أمانة فلا تجنيه إلا من حلال، ولا تنفقه إلا في حق، لا تنفقه إلا في صحيح من التعامل والإنفاق الذي يرضي الله عزَّ وجل، ففي مالك التزامات وحقوق لك ولمجتمعك ولأسرتك ولله عزِّ وجل، وينبغي أن ينفَق على النحو الذي تكون بذلك قد حققت صفة الأمانة فيك، وعملك الذي تمارسه تاجراً كنت أم صانعاً تبيع وتشتري أو تصنع وتقوم بأعمال، كل ذلك أمانات يجب أن تؤديها على النحو الصحيح، فتبيع بأمانة وصدق، وتشتري بأمانة وصدق، وتعطي الحق لصاحبه، وتصنع فتكون أميناً في صنعتك، أميناً في أدائك لما التزمت به، وهذا كله مسؤوليات يقول الله سبحانه وتعالى بشأنها: )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ( أنت مسؤول عن هذه الأمانات في الدرجة الأولى أمام الله وبين يدي الله، نعم قد يكون لك مدير في عملك، وقد يكون لك أب في بيتك، وقد يكون لك وزير في مؤسستك، إلا أن هؤلاء جميعاً مسؤوليتك بين يديهم مجازية، أما المسؤولية الحقيقة فهي بين يدي علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية، الذي يعلم السر وأخفى، لذلك عندما تقوم بعملك ينبغي أن تؤديه على الوجه الأتم لأن الناقد بصير ولأن من أنت مؤتمن بين يديه يعلم السر وأخفى، لا تخفى عليه خافية. قد تستطيع أن تخدع وزيرك أو مديرك أو معلمك في عملك في تجارتك أو في صناعتك، ولكن الله عزَّ وجل لا يخدع، ولا تخفى عليه خافية، والتكاليف الشرعية التي كلفك الله عزَّ وجل بها من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك من واجبات أناطها الله عزَّ وجل بك، هي أمانات في عنقك يجب أن تؤديها على الوجه الأتم، وتراقب الله في أدائها؛ لأن الله كما أخبرنا عن نفسه وهو معكم أينما كنتم، كما أخبر عن نفسه )أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى( وستقف بين يدي علام الغيوب غدا يوم القيامة )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ( أنت أمين على ما ائتمنك الله عزَّ وجل عليه فأدِ الأمانة على الوجه الصحيح، والمنصب الذي تبوأته صغيراً كان أم كبيراً، مهما كانت مرتبتك، سواء كنت أجيراً أو موظفاً صغيراً مستخدماً أم كنت وزيراً أم كنت أعلى من ذلك أنت مؤتمن، والنبي r يقول: « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» فولي الأمر راع ومسؤول عن رعيته، والأب راع ومسؤول عن رعيته، والأم راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع ومسؤول عن رعيته «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» الذين تبوأوا المناصب ينبغي أن يدركوا أن هذه المناصب ليست تشريفاً؛ وإنما أولوا ثقة ينبغي أن يكونوا على مستوى هذه الثقة، واستؤمنوا فينبغي أن يكونوا أمناء على ما استؤمنوا عليه، وإلا فالحساب في الدنيا قد يكون؛ ولكن الحساب في الآخرة لن يفلت من قبضة الله عزَّ وجل فيه أحد كائناً من كان، وكلكم آتيه يوم القيامة فردا لقد أحصاهم وعدهم عداً لن يفلت أحد من قبضة الله عزَّ وجل، قد يستطيع مخادعة البشر في موضعه الذي هو فيه؛ ولكنه لن يستطيع مخادعة علام الغيوب، من بيده الأمر كله، من لا تخفى عليه خافية. أداء الأمانة والمحافظة عليها مسؤولية ليست بين يدي إنسان في حقيقة الأمر، قد تكون الآن بين يدي من هو أعلى منك منصباً أو أعلى منك رتبة أو من أنت مسؤول بين يديه أجير بين يده، معلم أو خادم بين يدي سيده أو غير ذلك، إلا أن المسؤولية الحقيقة بين يدي الله لأن الله تعالى هو الذي أمرك أن تؤدي الأمانة )إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا( وأمر الله سيحاسب الله على مدى دقة تنفيذه وهو الذي يعلم السر وأخفى )يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ( الأمانة الدين كله، والأمانة تصنف في أصناف، أمانة كلية هي مجمل التكاليف التي كلفنا الله عزَّ وجل بها، وهي التي جمعها قوله تعالى: )إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ( إنها التكاليف، لأن من لا يحمل العقل والإرادة والاختيار لا يسمى مكلفاً، أودع الله فيك أهلية التكليف فشرفك بالتكليف، وهو سائلك عما ائتمنك عليه إذ شرفك هو به، والسموات والأرض على عظمهما لا تتمتع بمؤهلات التكليف، بينما أنت أيها الإنسان الذي شرفك الله عزَّ وجل بشيء عظيم )وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً( استخلفك في هذه الأرض وعهد إليك بإعمارها وعهد إليك بتطبيق عدالة الله فيها، فكن أميناً على ما ائتمنك عليه، وكن حريصاً على ما ائتمنت عليه أدّ الأمر على النحو الذي أمر الله عزَّ وجل به، هذه التكاليف مؤهلاتك فيها العقل والاختيار وسائر القوى التي متعك الله بها وميزك بها على سائر المخلوقات، هناك أمانات يجب أن نؤديها على النحو الذي كلفنا به ربنا تبارك وتعالى، الحقوق الخاصة يجب أن تؤدى إلى أصحابها من أموال وودائع ومشتريات ومبيعات ومصنوعات، فمن تعامل ينبغي أن يكون أميناً في معاملته، فمن اشترى أو استأجر أو رهن أو ارتهن أو غير ذلك أو اقترض ينبغي أن يكون أميناً على ما ائتمن عليه، دون أن يتخلف، وإلا فمن أخلف في أداء الأمانة كان اول الأصناف التي وصفت بالنفاق، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، هناك أمانات حملنا الله إياها بحكم موقعنا الاجتماعي الذي وضعنا الله عزَّ وجل فيه، الأب مؤتمن على اسرته بوصفه زوجاً وبوصفه أباً – كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته- أمانات كلفنا الله عزَّ وجل بها بوصفنا مكلفين بعبادته عندما عهد إلينا بأداء فرائضه )وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ(


تشغيل

صوتي