مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 17/06/2016

خطبة د. توفيق البوطي: من شروط النصر


من شروط النصر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: )وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( بعد أيام تصادفنا ذكرى غزوة بدر التي سميت يوم الفرقان، والتي تعد أول انتصار حاسمٍ كان للمسلمين في مواجهة الطغيان القرشي، واقف أمام عجالة تلخص هذه الغزوة ولعل كثيرين منكم يعرفها، ولكن أريد أن أخلص منها إلى الدروس المستفادة، أو بعبارة أخرى إلى شروط النصر.
هاجر المسلمون من مكة المكرمة تحت وطأة الاضطهاد والقهر والفتنة التي مارسها المشركون بحق مسلمي مكة المكرمة، حتى مات من مات وعمي من عمي، وأصاب المسلمين في مكة الكثير الكثير من الضيق والكرب، ثم إنهم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رضي الله عنها، تجرأت قريش على النبي r كما لم تتجرأ من قبل، حتى بلغ بهم الأمر أن تآمروا على حياة النبي r، فأذن الله تعالى لنبيه بالهجرة بعد أن كان قد أذن للمسلمين بالهجرة من قبل. والهجرة لم تكن فراراً، وإنما كانت انتقالاً من موقع إلى موقع، من موقع يُقهَر فيه المسلمون إلى موقع يقرر فيه المسلمون قرارهم ويتخذون موقفهم، ولهم في ذلك السيادة والقدرة على اتخاذ القرار. نعم انتقلوا من مكة مضطهَدين إلى المدينة المنورة ليؤسسوا أول دولة إسلامية، خرج النبي r من مكة وأموال المسلمين وبيوتهم يعبث بها المشركون؛ بل إن المشركين جردوا بعض المهاجرين من أموالهم في طريق هجرتهم، كصهيب الرومي t. رأى النبي r أن المسلمين قد جردوا من أموالهم من قبل طغاة قريش، وبلغه أن قافلة لطغاة قريش متجهة من الشام إلى مكة، فندب المسلمين لاسترداد بعض ما كانت قريش قد اغتصبته من أموالهم وحقوقهم، وقال لهم: أموالكم لعل الله ينفلكموها، وخرج عدد من المسلمين لا يتجاوزون ثلاثمئة وأربعة عشر رجلاً، لاعتراض تلك القافلة التي كان يقودها زعيم قريش آنذاك أبو سفيان، أحس أبو سفيان بأن المسلمين قد خرجوا لاعتراض قافلته فأرسل يستنجد بقريش، وهنا تفجر الطغيان في رأس أبي جهل وأعلنها حرباً على النبي r وحشد جيشاً ودججه بالأسلحة قوامه ألف مقاتل، وما أن توجه أبو جهل نحو بدر حتى عاد إليه رسول أبو سفيان: (أن عد فلا داعي للخروج لقد نجت القافلة)، وهنا تفجر طغيانه أكثر فقال: (لا والله لا نعود حتى نأتي بدراً فنقيم فيها ثلاثا فننحر الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القيان فلا تزال العرب تسمع بأمرنا وتهاب جانبنا)، هذا الذي أراده أبو جهل. أراد أن يقيم حفلاً فنياً ضخماً في كازينو بدر، هكذا خُيّل إليه، والنبي r وأصحابه كانوا لايزالون يترقبون مرور القافلة وإذ بالآيات تنزل عليه )وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ( وعَدَ النبي r أصحابه بالنصر، وهنا ظهر شيء آخر في واجهة النصر، إما في مواجهة القافلة وإما في مواجهة الجيش، أيِّ جيش؟! كانت مفاجأة، أجل جيش مدجج بالسلاح، جاء ليعلن الغطرسة والكبرياء لقريش، في مقابل أولئك الذين خرجوا لاسترداد بعض ما اغتصبه المشركون من أموالهم، هنا تقول الآيات )وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ( كانت آمال المسلمين متجهة إلى القافلة، وتمنوا لو أنهم إنما يقابلون قافلة تأتيهم غنيمة باردة، ولكن الله قدر أمراً آخر )أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِين (هذا الذي أراده الله عزوجل، واستشار النبي r أصحابه فعزموا على المواجهة وأبرموا قرارهم وتوكلوا على الله وهنا نزلت الآيات توصيهم )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(
أيها المسلمون، تمت المواجهة في السابع عشر من رمضان في يوم الجمعة والتحم الصفان، صف يشكل بحراً متلاطماً أمام جدول صغير، ألف مدججون بالسلاح أمام ثلاثمئة خرجوا لمواجهة قافلة، ولكن )وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ # لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ # إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ # وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ( تمت المواجهة وانتصر المسلمون وفرِّ المشركون مخلفين وراءهم سبعين جيفة وسبعين أسيرا, ورميت الجيف السبعين في قليب بدر، ووقف النبي r على فم القليب- البئر- وقال لتلك الجيف:" إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا!!" وعاد النبي r إلى المدينة ومعه سبعون من أسرى المشركين هذه خلاصة الغزوة.
لقد دفعتني هذه المناسبة إلى أن أتأمل آيات سورة الأنفال التي لخصت هذه الغزوة، لأستخلص منها شروط النصر، أو العبر والعظات. سميت السورة سورة الأنفال، وحديثي هذا موجه إلى جيشنا المقدام وشعبنا الصابر وقيادتنا التي تنتظر الغد الذي يحمل في طياته بشائر النصر إن شاء الله، في مواجهة حرب كونية شرسة ما شهد التاريخ مثلها، أقول: كلامي موجه إلى هؤلاء جميعا؛ لأن شروط النصر ينبغي أن نستكملها وإلا فإن العاقبة ليست حميدة، الشرط الأول: التجرد عن الغرض المادي وإخلاص القصد لله عزِّ وجل والترفع عن أن يكون الهدف مغانم أو أموالاً، ومتى صار الهدف مغانم أو أموالاً فستكون العاقبة سيئة، عندما انتصر المسلمون وقفوا أمام أول تجربة للغنائم، وأتوا إلى رسول الله rكيف نفعل بالغنائم؟ ونزلت الآيات تصرف أبصارهم عن الغنائم لتتجه أبصارهم إلى رب الغنائم، إلى الله الذي خرجتم لوجهه وجاهدتم في سبيله لا لمال ولا لغنيمة، فإذا انحرفت الوجهة فقدْتُم أبرز شرط من شروط النصر )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ( علامَ تختصمون؟ وعلامَ تختلفون؟ على أموال؟ هذه الأموال سر الهزيمة إذا جعلتموها قصداً ، وسبب الفشل إذا جعلتموها هدفاً )يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ # إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ( ثبّتوا هوية الإيمان في قلوبكم، لاحظوا بعد غزوة بدر ما جرى في غزوة أحد، في غزوة أحد في أول المواجهة انكشف المشركون وانتصر المسلمون، أجل انتصر المسلمون وانهزم المشركون لا يلوون على شيء، هؤلاء أمام التجربة مرة أخرى وأكثرهم غير الذين قاتلوا في غزوة بدر، فاندفعت نفوسهم إلى الغنائم وسال لعابهم عليها، فكان ذلك سببا للمصيبة التي أصابتهم اسمع : )وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ( أصيب المسلمون في غزوة أحد بسبعين شهيداً كما انتصر المسلمون في غزوة بدر فقتلوا من المشركين سبعين مشركاً، والسبب ترفّع المسلمين عن الغنائم في بدر، وسيلان لعابهم على الغنائم في أحد، إذا جعلنا المال الغنائم فضلاً عن الانتهاب، هدفا كان ذلك سببا من أسباب الهزيمة.
الأمر الآخر: من شروط النصر أن نثبت في المواجهة ولا نتلكأ ولا نجبن ولا نتردد، وسلاحنا في المواجهة ذكر الله تعالى والالتجاء إليه ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( وفي الآية الأخرى يقول: )إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ( أجل إذ تتضرعون إلى الله، إذ تذكرون الله، إذ تقفون بين يدي الله رافعين الأكف اللهم إننا بين يديك نستمد النصر منك، تألبت قوى الأرض علينا، وتزاحمت مناكب المجرمين من مشارق الأرض ومغاربها على سوريا، ليس لنا إلا الله، الأغراب قد حشدوا من هنا وهناك يفتكون ببلدنا ويقتلون أبناءها نساء وأطفالاً ورجالاً، من لنا إلا الله؟! لذلك إذا )إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( ولذلك يقول يربط الله بين النصر وشروطه وما بين الالتجاء إلى الله )إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ(
الشرط الثالث: النصر لا يأتي ونحن نيام، ولا يأتي ونحن قاعدون، ولا يأتي ونحن نمسك أيدينا عن البذل والتضحية، يقول ربنا تبارك وتعالى: )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ( أنت مكلف بأن تبذل وسعك لأن ذلك دليل الإخلاص، لأن ذلك هو الثمن الذي تشتري به النصر على قوى الأرض كلها إذا طغت وبغت وإذا كنت أنت مخلصاً لله عزَّ وجل )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ( تحضرني الآن كلمات قرأتها لأحد المتمشيخين – المشكلة أننا نحن بين إفراط وتفريط، بين تفريط يريد من الأمة أن تلقي السلاح وتستسلم للعدو، وإفراط مع أناس يريد منا أن نحرق الأخضر واليابس، ونتحول إلى أداة للقتل والإجرام، لا الجهاد في سبيل الله أسمى من هذا وأعظم من ذاك، قرأت لأحد المتمشيخين انتقاده لغزوة بدر ويعدها تطرفاً وإرهاباً – لعنة الله على المنافقين – نحن إن لم نواجه الإرهاب بقوة رتع الإرهاب في أعراضنا وانتهك أعراضنا وحرماتنا، نحن إن لم نكن أقوياء أصبحنا مطمعاً للطامعين، ومطية للمجرمين، نعم )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ( نرهب به الظلمة والطغاة والمجرمين، الدولة التي ليس فيها جهاد يحفظ أمنك وسلامتك دولة تعرضك للخطر وتجعلك أنت ومالك وعرضك نهبة للصوص والمجرمين. والدولة التي ليس لها جيش يحمي أرضها وحرماتها دولة تصبح لقمة سائغة في فم المجرمين، لابد من أن نكون أقوياء وعلينا أن نبذل ما في وسعنا والنصر قادم بإذن الله تعالى، لن يتسع المقام لإعطاء كامل الدروس، أقف عند هذه النقطة ولعل الله يوفقنا لمتابعة الموضوع في الأسبوع القادم إن أحياني الله عزَّ وجل وأحيانا، نحن أمام ما نعانيه من مواجهة خطيرة اليوم ينبغي أن ندفع ثمن النصر، ونستكمل شروطه، وأن نكون صفاً واحداً في مواجهة العدو، مواجهتكم أيها المسلمون ليست أمام هذه العصابات، مواجهتكم أمام من أرسل هذه العصابات، مواجهتكم أمام دول تريد أن تدمر الإسلام وتدمر سوريا؛ لذلك ينبغي أن نكون أوعى من أن نصبح مطية لعدو أو أن نكون ضعفاء في المواجهة.
أسأل الله أن يفرج عنا فرجاً قريباً، أسأل الله أن يجعل من شهر رمضان الذي انتصر فيه المسلمون في غزوة بدر وفي فتح مكة أن يجعله انتصاراً وفرجاً عن الأمة في سوريا وغيرها .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2016/06/17


تشغيل

صوتي