مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 10/06/2016

خطبة د. توفيق البوطي: وقفات مع شهر الصيام


وقفات مع شهر الصيام
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ويقول جل شأنه: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( ووصف النبي r الصوم بأنه جُنّة أي وقاية، وفي صحيح السنة عن أبي هريرة عنه قال: قال النبي r: « كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به » وقال: «كل حسنة يعملها ابن آدم تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»، وروى البخاري عن أبي هريرة y أن النبي rقال: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.»
أيها المسلمون؛ الصوم عبادة تقوم على الإخلاص وتثمر التقوى، وقد قال أهل المعرفة في منهج التربية الإيمانية: التخلية ثم التحلية، أي التنظيف والتطهير ثم الاكتساء والزينة ،لو أنك أتيت بأفخر طعام وأشهاه، ثم وضعته في إناء قذر غير نظيف..فما مصيره؟ كذلك الصوم هو عبادة عظيمة، ولكن ينبغي أن نستعد لها ونطهر آنية قلوبنا ونفوسنا لتنال هذه العبادة موقعها من حياتنا، وتلقي بظلالها على سلوكنا وتصرفاتنا.
سأقف وقفات عند معاني الصوم ومعاني هذا الشهر العظيم.
أولا: الشائع بين الناس أن يكون الصائم كثير الضجر سريع الانفعال، ولكن النقيض من ذلك هو الصحيح، فالصائم ينبغي أن يوسع صدره ويزيد من صبره وتحمله؛ لأنه يكون في صيامه أرق قلباً وأرهف حساً فما ينبغي أن يكون سريع الانفعال شديد الغضب، أنت في صومك كما أنت في صلاتك، أنت في عبادة. وكما أنك في صلاتك بين يدي الله عز وجل ،فأنت في صومك أيضاً بين يدي الله سبحانه وتعالى, في عبادة وأي عبادة! عبادة تربط قلبك بالله سبحانه بصورة مستمرة فتحول بينك وبين كثير من مشتهياتك ابتغاء القبول عند الله جل شأنه، تكون بمفردك وتشتهي الطعام والشراب لا يحول بينك وبينه إلا مراقبتك لله عز وجل وطلب القبول لديه، ورجاء الثواب منه خوفَ أن تقع في مخالفته، نسيت الناس ونسيت الخلق وعشت مع الخالق، هذا هو الصائم، أنت في صيامك تجوع ولكن على أمل أن تجد عند المغرب مائدة عامرة بما ترغب، ألا يذكرك ذلك بمن يصوم ويبقى صائماً لأنه ليس لديه ما يأكله ويطعمه أهله في ساعة الإفطار ألا يرق قلبك له؟ ألا يذكرك هذا بمن يصوم ويبق صائما لأنه لا يجد من الوقت سعة ليعد طعامه وهو منهمك بحمايتك والدفاع عن بيتك وأهلك ومالك، أولئك الذين يسهرون لتنام أنت، والذين يقفون في مواجهة الخطر لتأمن أنت، والذين يتجشمون الصعاب لتستريح أنت، تذكرْهم فإنهم جديرون بأن تتذكرهم وأن تبسط إليهم يد المحبة ويد الإحسان فهم مستحقون ذلك عبر الوسائل التي أتيحت من أجل مساعدتهم ومن أجل النهوض بشأنهم.
أنت في شهر رمضان في شهر القرآن )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ( ألا يشدك هذا الشهر إلى توثيق صلتك بكتاب الله عز وجل تلاوة وسماعاً ودراسة ومدارسة، ألا يدفعك إلى مزيد من الاهتمام بتعلم القرآن, والنبي r يقول: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ألا يدفعك هذا إلى مزيد من الاهتمام بمضاعفة الجهد بتلاوته أناء الليل و أطراف النهار وتعلمه، والمساجد قد فتحت أبوابها طيلة العام وفي رمضان بمزيد من الاهتمام من أجل أن تتعلم كتاب الله. هذه المساجد أرجو أن تكون شاهدة لك لا أن تكون شاهدة عليك، حِلَق القرآن فيها أرجو أن تكون حدائق غناء تستمتع فيها روحك بتلاوة القرآن بسماعه بتعلمه.. بمدارسته.. بمراجعته، ألا تجعل في خطاب الله لك بلسماً لجراحك دواء لدائك علاجاً لمشكلاتك أنيساً لك في وحشتك منهاجاً لك في حياتك...!
أنت في رمضان في وطن جريح، وطن مصاب تكالبت أيدي الأشرار عليه، وتواطأت قوى الطغيان في الأرض عليه، فها هو ذا جريح مثخن بجراحه، جراحه أنت، جراحه أهلك وإخوانك المشردون، تلك المرأة التي فقدت زوجها وذلك الصبي الذي فقد أبويه أو أحدهما، وتلك الثكلى التي فقدت أولادها، وذلك اليتيم الذي يئن من وطأة اليتم، كل هذي الجراح ألا تستنهض منا رفع الأكف إلى الله سبحانه وتعالى في هذا الشهر أن يا الله فرج عن أمة محمد في بلدنا هذا وسائر بلاد الأرض، أن يا رب أنقذ وطننا هذا من براثن الأعداء، أن يا رب العالمين فرج عن أمتك عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم في سوريا في حلب في الرقة في دير الزور في كل شبر من سوريا دنسته أيدي المجرمين ونشرت فيه القتل والموت والفجور، ألا يقتضي ذلك منك أن تبسط يديك إلى الله سبحانه وتعالى تسأله؛ وهو وحده الذي يرفع الغمة عن وطننا هذا، هو الذي يقيض الأسباب أو يعطلها، هو الذي يملك الأمر كله، هو النافع وهو الضار، هو المعطي وهو المانع، هو المفرج هو المؤدب بسياط تأديبه وهو المفرج عندما تشاء حكمته أن يفرج.
ابسط كفيك إلى الله وقل له: يا رب نسألك أن ترحم البلاد والعباد، نسألك أن ترحم بهائمَ رُتع أهلكتهم حالة الحرب التي نعاني منها، ابسط كفيك إلى الله وقل يا رب ارحم أطفالاً رضع يتيموا ونساءً رملن ونساء ثكالى وأرامل ليس لهن إلا أنت يا رب السموات والأرض، (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) أم يقل ربنا تبارك وتعالى بعد آية شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن (و إذا سألك عبادي عني فإني قريب. أجيب دعوة الداعِ إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) جدير بنا في هذا الشهر أن نبسط الأكف إلى مولانا تبارك وتعالى، ونسأله المغفرة ونسأله التوبة ونسأله الرحمة، أن نجدد العهد مع الله عز وجل أن نلتزم حدوده ونلتزم طاعته وأن نجتهد في تجنب معصيته، بل إن الاجتهاد في تجنب المعصية أولى من مضاعفة الجهد في الطاعات، لأن النبي r يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه – اقتطعوا دابره من حياتكم – وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم" المأمور لا يكلف الله نفساً إلا وسعها أما المنهي فيجب أن نتجنبه ونجعل بيننا وبينه مسافة شاسعة، أن نسعى جاهدين أن نجعل ليالي هذا الشهر ليالي طاعة لا ليالي معصية، ليالي ذكر لا ليالي غفلة، ليالي إقبال على طاعة الله وتلاوة القرآن لا ليالي إقبال على شاشة الفسق والفجور، فلنقاطع نوافذ الشيطان، لنقاطع أسباب الضلالة، هي فرصة لنا ولسوف يستجيب الله دعاءنا بإذنه سبحانه، ولسوف نجد أننا بمقدار ما نصدق الله سبحانه وتعالى في الالتجاء إليه سيستجيب لنا وسيفرج عنا بأمور..: بالتراحم، بالالتفات إلى كتاب الله تعالى وتوثيق الصلة به، ببسط الأكف إلى الله سبحانه وتعالى والتضرع إليه، بالتراحم؛ لأن الراحمين يرحمهم الرحمن "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " بتجنب مزالق الفتنة والشيطان، فأصل البلاء الذي نعاني فيه كلكم يذكره... كلكم يذكره يوم حذر منه الشهيد رحمه الله تعالى وبين أن غضبة إلهية عارمة قد أقبلت إلى هذه البلاد بسبب فسق وفساد انتشر فيها وشاع في بيوتها، نعم لنتب إلى الله عز وجل ونجدد عهد التوبة إليه سبحانه وتعالى فليس لنا باب سوى بابه وليس لنا ملجأ إلا إليه، فلنجدد العهد مع الله عز وجل، وجدير بمن كان قد شعر بالأسى أن يبحث عن الدواء، جدير بمن شعر بالألم أن يبحث عن البلسم، جدير بمن عرف أن الباب لا يغلق أن يقف على الباب الذي لا يغلق، باب الرحمة الإلهية )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ( أسأل الله سبحانه أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يجعل من شهر رمضان الذي قد أظلنا شهر رحمة وفرج وتوبة صادقة إليه إنه سميع مجيب.
خطبة الجمعة 10/06/2016


تشغيل

صوتي