مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/04/2016

خطبة د. توفيق البوطي: من دلائل الإسراء والمعراج


من دلائل الإسراء والمعراج
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ # وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي ‎وَكِيلًا # ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا # وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ( وروى مسلم عن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال في قصة الإسراء والمعراج التي جرت قبل الهجرة بسنة ونصف وبعد خروج النبي r إلى الطائف وعودته منها مخيباً من قبل الناس، مكرماً من قبل رب الناس، وكان أشد يوم عليه في حياته الدعوية، وبعد وفاة سيدتنا خديجة t وعمه أبي طالب. قال:« أُتيت بالبراق، وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل، فقيل من أنت؟ قال جبريل، قيل: ومن معك؟ قال محمد، قال وقد بعث إليه؟ قال قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قال: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى ويحيى بن زكرياء صلوات الله عليهما، فرحبا ودعوا لي بخير، وهكذا إلى أن بلغ السماء السابعة، فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم r مسندا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذُهب بي إلى سدرة المنتهى، حيث لم يصل أحد من الخلق إلى تلك المنزلة سوى النبي r، وإذا ثمرها كالقلال، قال: فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت، فما من أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلي ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة – أي عليه وعلى أمته- قال: فنزلتُ إلى موسى عليه الصلاة والسلام، قال: ما فرض ربك على أمتك، قلت خمسين صلاة، قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: فلم يزل يرجع إلى ربه ما بين موسى ورب العزة جلَّ شانه، حتى قال له الله تعالى: يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشرة، فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرة، ومن هم بسيئة فلم يعملهالم تكتب شيئاً، فإن عملها كتبت سيئة واحدة»
أيها المسلمون، نحن على مشارف ذكرى الإسراء والمعراج، هذه الحادثة العظيمة والمعجزة الكبيرة التي تحدث عنها كتاب الله عزَّ وجل، والتي جرت أواخر العهد المكي وقبيل بيعتي العقبة. جاءت هذه الحادثة في حالة كان المسلمون فيها يعانون، وكان النبي r في أشد أيام معاناته وأصعبها عليه، اشتد عليه الكرب بعد وفاة عمه وزوجته خديجة واستغلقت أبواب الاستجابة من قريش، فخرج يبحث عن مكان يبلغ فيه رسالته وينشر فيه دعوته، وأراد التوجه إلى الطائف، فكان استقبال أهل الطائف له أسوأ استقبال، سلطوا عليه سفهاءهم ورموه بالحجارة واستهزؤوا به.
ورجع النبي r تطارده شتائم سفهاء الطائف وحجارتهم؛ حتى شج رأسه ودميت قدماه. ثم أوى إلى ظل حائط – أي بستان - لعتبة وشبية ابني ربيعة، وكانا مشركين بل كانا من زعماء الشرك، وهناك رفع النبي r يديه إلى الله عزَّ وجل يدعو:« اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي، يا أرحم الراحمين، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمري، ثم قال: اللهم إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي. ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» موقف فيه العبودية وفيه الثبات، فيه عبودية الافتقار إلى الله والالتجاء إليه وفيه الإصرار على الثبات مهما كلف الأمر. وأنه لن يتراجع مهما بلغت التضحيات، «إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي» اهتزت السموات لدعائه، ونزل جبريل ومعه ملك الجبال ليقول له، لو شئت يا محمد لأطبقت عليهم الأخشبين، أي على أهل مكة. قال: "لا، بل إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يؤمن بي فيدخل الجنة" حتى وإن هم رفضوا، فلعل من ذريتهم من يؤمن بي فيدخل الجنة، وفي ذلك الموقف أتى إلى النبي r وفد من الجن يعلنون إسلامهم، وكان معه زيد بن حارثة، وبعد هذه الحادثة المؤلمة أكرم نبيه المصطفى r بمعجزة الإسراء والمعراج، إذاً هذه هي ملابسات معجزة الإسراء والمعراج، إنها بداية الانفراج، والنور الذي انبثق في أفق مستقبل الدعوة الإسلامية ليقول للنبي r لا تيأس ولا تقنط؛ فإن الله معك، ولئن ضاقت بك الأرض فتحت لك أبواب السموات لتكون ضيفاً على رب العزة جل شأنه. ولكن هذه الحادثة لها دلائل أخرى خارج هذا الإطار، هذا الربط فيما بين المسجد الأقصى والكعبة المشرفة )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى( هذا الربط ربط يدل على وحدة الرسالات السماوية مصدراً وعقيدة وهدفاً، فمن أرسل آدم عليه السلام ومن بعده نوحاً وسائر الأنبياء ومن بعدهم رسول الله r هو رب العزة جل شأنه، وكلهم جاء برسالة التوحيد، وكلهم حمّل الإنسان مسؤولية النهوض بشرع الله عزَّ وجل وفقاً للمرحلة التي كانوا فيها، قد تختلف الشرائع أما العقيدة فواحدة، والدين واحد. الأمر الآخر هذا الربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى يدل على أننا نعد مسؤولين عن حماية الكعبة المشرفة ومسؤولين في الوقت نفسه والدرجة نفسها عن حماية المسجد الأقصى، أين هو المسجد الأقصى اليوم ؟! أسير بيد أحط شعوب الأرض وأقذرها، والذين نص كتاب الله عزَّ وجل على إلحاق اللعنة بهم وأنهم أشد الناس كراهية وعدوانية لنا، )لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا( ،فهم والذين أشركوا في مثابة واحدة في كراهيتهم لهذا الإسلام وحقدهم على هذه الأمة. بيت المقدس الذي فتح سِلماً على يد سيدنا عمر t وكتب لأهله العهدة العمرية التي خلدها التاريخ، بيت المقدس اليوم يدنس بعصابات اليهود فتنتهك حرمته ويهدد بناؤه بالتداعي والتدمير، بينما نحن نعاني مما نعاني منه من أدعياء الاسلام والملتصقين به. أما أكثر قادة الأمة فقد صافحوا العدو وبايعوه، وأسلموا له القيادة والأمر كله، سواء سراً أو جهراً؛ لم تعد المسألة خافية. وبدلاً من أن نسارع إلى تحرير بيت المقدس ونحشد القوة بعد القوة إلى جانب القوة في سبيل تحرير أرض بيت المقدس نضرب بقوتنا بعضنا وننحر بعضنا ونهدد بعضنا، أجل، ولو أنهم اجتمعوا لأفلحوا، ولكن )تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ( لماذا لأنهم لا يريدون وجه الله، لأنهم أدوات طيعة بأيدي العدو، استعملتهم تلك القوة الغاشمة التي تحتل فلسطين لكي يضعفوا من هذه الأمة ويُعملوا فيها مبضع التمزيق والتشتيت فوق ما هي ممزقة ومشتتة، وها هم أنفسهم يقتتلون، على ماذا؟ إذا كان الهدف بناء دولة إسلامية ففيم يقتتلون؟ الهدف هو تدمير الأمة الإسلامية، الهدف هو تقويض بناء هذه الأمة وتقويض أوطانها أيضاً، الهدف هو أن نصل إلى هذه النهاية التي نعاني منها، ونحن نطبق البرنامج بكل أمانة، هكذا أريد لنا فينبغي أن ننفذ ما أريد لنا، بدلاً من أن نستيقظ وننتبه من أننا أصبحنا أداة غبية بيد أعدائنا، نستمرئ هذا الخط ونتابع السير عليه، أين نحن من )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا(


تشغيل

صوتي