مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 29/01/2016

خطبة د. توفيق البوطي: الفتنة وسبل النجاة


الفتنة .. وسبل النجاة منها
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم: ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( وقال سبحانه: )وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ( روى مسلم عن أبي هريرة t أن النبي r قال: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا» روى الطبراني في معجمه عن ابن عباس t قال: قال رسول الله r: «سيجيئ في آخر الزمان تكون وجوههم وجوه الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين، أمثال الذئاب الضواري ليس في قلوبهم شيء من الرحمة سفاكون للدماء لا يزعون- لا يمنعون - قبيحاً، إن تابعتهم واربوك – احتالوا عليك - وإن تواريت عنهم اغتابوك، وإن حدثوك غلبوك، وإن أمنتهم خانوك، صبيهم عارم – أي حاد شرس – وشابهم شاطر – أي من أعيى أهله خبثاً وفسادا- وشيخهم لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، الاعتزاز بهم ذل، وطلب ما في أيديهم فقر، الحليم فيهم غاوٍ – ضال – والآمر بالمعروف متهم، المؤمن فيهم مستضعف، والفاسق فيهم مشرَّف، السنة فيهم بدعة والبدعة فيهم سنة، عند ذلك يسلط الله عليهم شرارهم، ويدعو خيارهم فلا يستجاب لهم».
أيها المسلمون، نعيش في عصرنا هذا فتناً كما وصفها النبي r كقطع الليل المظلم، ولابد من بيان معنى كلمة الفتنة، أصل كلمة الفتنة نار يذاب به الذهب ليصفو من شوائبه، ولكن غدت في المصطلح القرآني ذات معانٍ عدة، منها الامتحان وهو أمر يتناسب مع المعنى اللغوي، لأن الامتحان تمحيص شديد يصفي ويميز الحسن من القبيح والخير من الشرير والمؤمن من المنافق، الفتنة أيضاً تطلق على من يفتن عن دينه أو يحول عن قناعاته بالضغط أو الإرهاب يفتنونهم عن دينهم – أي يحولونهم عن دينهم إلى غيره - اليوم نعيش فتناً في ثوب إغراءات أو في ثوب إرهاب، في شكل إسلام أو في شكل كفر، يضغط فيه على الأمة لتنحرف عن مسارها ولتضل عن طريقها، ولقد ضل في غمار هذه الفتنة كثيرون، أخطأوا الطريق وأضاعوا الوجهة وانحرفوا عن القبلة الصحيحة، سواء كان ذلك بسبب مغريات، هذه المغريات التي دخلت بيوتنا وتحولت إلى سلوك وعادات فرضت نفسها علينا وعلى أسرنا أو كانت بتلك المظاهر التي تجلت في عصرنا هذا والتي أخذت شكل الإصلاح والدعوة إلى التحول من حال إلى حال، ظاهرها الإصلاح وباطنها الإفساد، ظاهرها الحرية وباطنها الاستعباد، ظاهرها الخير وباطنها الشر، ولقد تكشفت عن حقائقها وتجلت وظهرت هويتها، وما أظن عاقلاً لايزال مغتراً بها، لكن هناك فتنة أخرى تندرج في هذا النوع إلى حد بعيد، فتن كما وصفها النبي r كقطع الليل المظلم، تمحص المؤمن الصادق عن المنافق، وتنجلي عن نفوس كانت مثار اغترار، كان الناس يغترون بهم أنهم أهل فضل، أنهم أهل إيمان أنهم أهل هداية، وإذ عند الفتنة تجلت الأمور على حقيقتها فتبين أنهم أهل ضلال وانحراف ونفاق. يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا؛ ذلك لأنه كان يظهر الإيمان ولم يكن إيمانه ذا جذور في شخصيته، أشد أنواع هذه الفتن فتنة تلبس لبوس الإسلام، وتنشر في الأرض الفساد بأشرس أشكاله، وتدعي أنها تدعو إلى تطبيق الإسلام وإذ هي عبارة عن مظاهر تنفر من الإسلام وتفسد في الأرض أيما إفساد، تنشر الإرهاب وتنشر التطرف، سلوكهم يتنافى كل التنافي ويتناقض كل التناقض مع الإسلام، والحديث الذي يرويه الطبراني والذي قرأته عليكم أعيد فقرات منه مع بعض البيان، قال: سيجيئ في آخر الزمان، فنحن الآن في فترة عصيبة من تاريخ البشرية، نحن أمام امتحان التمحيص الذي تنكشف عنه الأشراط الكبرى للساعة، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت. قال: «أقوام تكون وجوههم وجوه آدميين، لكن قلوبهم قلوب شياطين» لاحظ الوصف؛ قال: «أمثال الذئاب الضواري» في وحشيتهم في همجيتهم في شراستهم، لا يمكن أن تكون صفاتهم منسجمة مع وصف الإنسان المسلم الذي رباه النبي r في الجيل الأول ولا تنسجم مع أوامر ديننا ولا مع توجيهات إسلامنا، قال: «ليس في قلوبهم شيء من الرحمة سفاكون للدماء لا يزعون- لا يمنعون - قبيحاً، إن تابعتهم واربوك – احتالوا عليك - وإن تواريت عنهم اغتابوك، وإن حدثوك كذبوك، وإن أمنتهم خانوك» أعتقد أن هذا الفصيل من الوحوش البشرية قد ظهر في عصرنا، ولم يعد خافيا إعجاز النبوة في هذا الوصف، ثم قال «صبيهم عارم» يربى صبيانهم على الشراسة والحدة، «وشابّهم شاطر» شاطر في اللغة العربية هو من أعيى أهله خبثاً وفساداً «وشيخهم لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر» شيخهم أو المسن فيهم من تأنس فيه العقل والحكمة، لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، والأمة إذا مات فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمة تُودّع منها وحاق بها لعنة الله والأنبياء ألم يقل الله تعالى ) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ#كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ( قال: «الاعتزاز بهم ذل، وطلب ما في أيديهم فقر» هذه فتنة، ولا شك أن أمتنا تتعرض اليوم لهذا الصنف من الفتنة أيما تعرض، ولكن هذه الفتنة نوع من الأنواع التي نتعرض لها، هناك من أخطأ الطريق وبحث عن النجاة من الفتنة بالفتنة، فترك أرض الإسلام ومضى يبحث عن الأمان، أمان نفسه وعرضه وبيته وماله حيث لا أمان لا على نفسه ولا على عرضه ولا على بيته ولا على ماله، وبدلاً من إصلاح بيته هجر بيته ودمر وطنه ومضى ليكون خادماً خانعاً لمؤسسة العدو، أنا لا ألتمس عذراً لمعتذر. غيري قد يلتمس العذر، ولكني أرى أن اختيار دار الكفر بديلاً عن دار الإسلام هو منزلق لا منجاة بعده أبداً أبداً، وهذا أمر يسوّله ويزينه البعض متناسين أو متجاهلين أنه منزلق قدم، ليتحول أبناؤنا والعقول المتميزة فينا والطاقات الشابة فينا لخدمة العدو مجاناً، مع التخلي عن القيم والأخلاق، بل حتى عن الحياة، يبذل أحدهم ماله وعرضه وحياته بأرخص الأثمان مستعيضاً عن بلده ببلاد هي التي غذّت الفتنة في بلادنا، وهي التي أوقدت نار الفتنة في بلادنا، ولا تزال حتى اليوم تغذّي الفتنة بالسلاح والمال لكي تحترق أمتنا في نارها، فحربهم لنا ذات شكلين، شكل في أن تحرق بلادنا، والشكل الآخر أن نفرّ من حريق بلادنا إلى حريقهم، كالمستجير من الرمضاء بالنار، كذلك هذه الفتنة، نحن اليوم ينبغي أن نبحث عن سبل النجاة، أول أمر تفتقر إليه اليوم نحتاجه لمواجهة الفتنة أن تكون لدينا موازين علمية صحيحة لسلوكنا ولتصرفاتنا ولمواقفنا، فلقد ضل الناس في أول هذه الفتنة عندما سمو الفتنة جهاداً، وعندما سمو من ضلّوا في طريقها مجاهدين، وهاهم يحترقون بنار فتنتهم ويحرقون أهلهم وبلادهم، إذاً الأمر الأول بالفقه والعلم، بالحجة والدليل والبرهان، بمعرفة هدي النبوة بماذا نواجه هذه الدعوات المضللة في عصرنا هذا، وبأي شكل نفهم وبأي ميزان نضع هذه الأحداث التي تمر بها أمتنا، هناك توجيهات نبوية أُعلنت ووُضحت، ولكن ركب كثير من الناس رؤوسهم فحصدوا نتائج عنادهم. الأمر الآخر بكثرة الالتجاء إلى الله وبالعبادات والأعمال الصالحة، النبي الكريم r يقول: "العبادة في الهرج كهجرة إلي" رواه مسلم، لأن هذا هو المعتصم، أن ننزل بساحة رحمة الله عزَّ وجل، أن نفر من نار هذه الفتنة إلى ظلال طاعة الله تعالى والتضرع بين يديه، هذا الذي نراه له ظاهر وله باطن، هو في ظاهره بلاء حاق بنا، وفي باطنه نار نحن أشعلناها بمعاصينا، وما نتعرض له سياط تأديب توقذ فريقاً من الناس وتفتن فريقاً آخر عن دينه، أجل بكثرة الذكر لأن الله سبحانه وتعالى في الآية القرآنية يقول )فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ( إذا ذكرته في حالة الشدة والرخاء، وحالة الابتلاء وحالة السعادة إذا ذكرته ذكرك وإذا ذكرك رحمك ونجاك مما قد تتعرض له، بصحبة أهل التقى وتجنب أهل الفتنة. فكم من إنسان أضل الطريق لأنه صاحب أهل الفتنة، بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه وبيان العلماء لأحكام ما نتعرض له، وأن لا نحتكم إلى الهوى )لَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ( والأمر قد يضيق عن بيانه الوقت، لكن أعطيت ومضات لكي نتبين معالم طريقنا للنجاة مما نحن فيه، على أننا نقول إننا إذا عدنا إلى ربنا عودة حميدة فقد وعدنا ربنا بحياة حسنة في الدنيا وسعادة خالدة في الآخرة ) فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 29/01/2016


تشغيل

صوتي