مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 22/01/2016

خطبة د. توفيق البوطي: ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا


ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون ،يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( ويقول في آية أخرى: ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ ( ويقول سبحانه )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً( ويقول جل شأنه: )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً( ويقول سبحانه: ) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (
أيها المسلمون، تعاني الأمة في بلادنا وفي سائر بلاد الأرض من شدة في أمنهم وضائقة في رزقهم، ومشكلات في علاقاتهم وسائر شؤونهم، ويبحثون عن مخرج مما يعانون منه، تُرى هل من مخرج من هذه الشدة؟ هل من فرج من هذه المعاناة، كتاب الله سبحانه وتعالى يدلنا إلى بوابة الفرج والمخرج من هذه الضيق، ألم يقل ربنا ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً ( ) وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ( )وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ( التقوى بوابة الفرج وسبيل الخلاص من المعاناة، سبيل الخروج من كل ضيق، كل منا يشعر ويعلم ويعاني صباح مساء من مشكلات في أمنه، ومشكلات في رزقه، ومشكلات اعترت البناء الاجتماعي والعلاقات فيما بين الناس. ونبحث جميعاً إلى متى؟ وما المخرج؟ كنا في سعة والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم ) إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ( لم يتغير الحال من سعة إلى ضيق ومن أمن إلى خوف ومن رخاء إلى شدة إلا بسبب منا نحن، وهذا مصداق قوله تعالى )وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( أما وقد أُصبنا نتيجة تقصيرنا و ذنوبنا فما المخرج؟ المخرج هو نفس البوابة التي خرجنا منها من أسباب السعة والرخاء إلى مضائق الشدة هو نفسه أن نخرج من المعصية وأن نلتزم الطاعة، وأن نقف عند حدود الله في جميع أمورنا وعلاقاتنا وتصرفاتنا، ليعد كل منا إلى نفسه؛ إلى صلاته هل يؤديها على الوجه الذي ينبغي؟ هل يؤديها كما أمر الله سبحانه وتعالى مستوفية شروطها وأركانها؟ أم إنها غدت مجرد طقوس لا روح فيها؟ فلنبث فيها روح المخافة من الله والمحبة له والخشوع بين يديه لكي نفلح، ألم يقل الله تعالى )قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ# الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ( هل أدينا زكاة اموالنا وهل بذلنا الحقوق التي رتبها الله سبحانه وتعالى علينا من زكاة وصدقات ونفقات، ألم يلزمنا ربنا تبارك وتعالى بالإنفاق على الزوجة والولد، وعلى الوالدين وعلى من حمّلنا مسؤولياتهم؟ هل أدينا هذا الحق؟ هل دفعنا زكاة مالنا على الوجه الصحيح أم إننا حاولنا أن نحتال على الزكاة وكأننا نتعامل مع إنسان مثلنا؟ أنت تتعامل مع علام الغيوب، أنت تتعامل مع رب السموات والأرض، فعندما تؤدي الزكاة إنا هذه الزكاة هي لله، وإن كان ظاهرها لعبده ولكنها إنما تقع موقعها عند الله عزَّ وجل، هو الذي يقبل منك صالح عملك، إن كنت تعطي في يد الفقير لكن هذه الزكاة إنما هي لله وليست للفقير، الفقير هو الساحة التي أوجب الله عليك بذل هذا المال في سبيله ) وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ( فِيهِ هل أديت الحقوق التي في ذمتك للمشتري والبائع؟ للمستأجر والمؤجر؟ أم إننا وفي هذه الضائقة في الذات انتهزنا فرصة الضيق والشدة ليأكل بعضنا بعضا، ليظلم بعضنا بعضا؟ ليستغل بعضنا بعضا، التراحم بوابة الرحمة، إذا أردت أن يرحمك الله عزَّ وجل في هذه الحالة التي نحن فيها ويجعل لك من هذا الضيق فرجاً ومخرجا "الراحمون يرحمهم الرحمن" ولكن أنتم أدرى أننا نستغل حاجة الأخ فنزيد عليه أعباءه، ونرفع له الأثمان ونضاعف عليه الأجور مستغلين، الظروف التي يعاني منها الناس لأنه مضطر، والمضطر يُلجأ، و الإلجاء أحد أسوأ الأساليب في التضييق على الناس.
نعم علينا أن نتقي الله في حق أرحامنا، هل وصلنا أرحامنا أم قطعناها، علينا أن نتقي الله في حق جيراننا وإخواننا وأصدقائنا والبعيدين، هل يا ترى أطلقنا ألسنتنا بالخير والثناء والنصح، أم إننا أطلقنا الألسنة في الغيبة والنميمة والكذب، لنعد إلى أنفسنا )هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ( هكذا سيقول لنا ربنا وتعالى، ويقول لنا في كتابه أيضاً: )اقْرَأْ كَتَابَكَ( )وقالوا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ( لو أن الأجل جاءك الليلة أو جاءك الساعة ماذا أعددت لهذا الأجل، بماذا تزودت للموقف بين يدي ربك سبحانك وتعالى عندما يقول لك )اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً( )هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ( لنتقِ الله لكي نجد من هذا الضيق فرجاً ومخرجاً، ليتق الله كلٌ منا، المدني والعسكري، الموظف والأمني، كلنا مطالبون بتقوى الله سبحانه وتعالى، الكبير والصغير، الأمة كلها يجب أن تبحث عن مخرج لنفسها. وإن كنا نعلم أن هناك من يتمنى أن تتطاول الأزمة، لكي يقتات على داء الناس ويعيش من وراء مصائبهم، هؤلاء هم وقود نار جهنم في الدنيا والآخرة، هم الذين ستنزل بهم القوارع؛ لأنهم لم يتعظوا مما أصاب الأمة من مصائب.
ما التقوى؟ فسر عبد الله بن مسعود t قوله تعالى: )اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ( فقال: ((هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى)) أن يطاع فلا يعصى يطاع في تنفيذ الأوامر، ويطاع في اجتناب النواهي، لو أننا عدنا إلى نهارنا وليلنا وتأملنا - وأنا أولكم؛ ينبغي علي أن أتأمل - إذا عدتُ في المساء فتصفحت يومي الذي مضى كم نفذت من أوامر وكم خالفت، وكم ارتكبت من مناهٍ وكم وقفت عند حدود؟ لوجدنا أننا مقصرون جداً، وأن علينا أن نتوب توبة نصوحاً، وأن نعود إلى ربنا ونتدارك تقصيرنا، اليوم أيها الأخوة عمل بلا حساب، وغداً حساب بلا عمل، غداً لن تجدي معنا )رَبِّ ارْجِعُونِ# لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ( لن تفيدنا الندامة لأن ساعة الندامة قد مضت وفاتت.
يرى بعض العلماء أن قوله تعالى )اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ( قد نسخه قوله تعالى ) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( إلا أن أكثر العلماء على أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى لا يكلفنا ما لا نطيق، هكذا بين لنا )لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا( لذلك حقُ تقاته سبحانه وتعالى كما بين ابن مسعود t أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر، الشكر..! تسأل الإنسان عن حاله فيجيب (أخي الأمور صعبة الأمور فيها ضيق الأمور فيها شدة والسيولة قليلة) الله أكبر، يا أخي الكثير منا يعاني، والكثير منا منعم؛ فلنشكر الله على نعمة الطعام الذي يأكله، فليشكر الله على نعمة الماء النمير الذي يشربه، أنتم ترون وتسمعون أن أشقياء الأرض ومجرميها قطعوا الماء عن مدينة كبرى في سوريا، هذا الإنسان الذي يعاني من الظمأ وقلة الماء وشحه، هذا يعاني من مصيبة فإذا وصل الماء إلى بيتك عذباً نميراً فاشكر الله واحمده، قل الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا، إذا وجدت أن الأسوق فيها من الخيرات ما فيها نعم الغلاء موجود، والغلاء منشؤه أمران الأمر الأول قلة الموارد، والأمر الثاني أنانية التجار، فلا ينكرن ذلك تاجر، لأن هذا الأمر موضع معاناة، وهو أمر معروف، نستغل حاجة بعضنا. لكن مع ذلك كونه موجوداً احمد الله، كونك في بيتك اشكر الله. مئات الألوف شردوا عن بيوتهم بسبب هذا الإجرام الذي ارتكب في بلدنا بسبب الفتنة التي أوقد نارها أعداء أمتنا، وكان في أبناء أمتنا أدواتٌ غبية لهم، اشكر الله أنك في بيتك " من أمسى و أصبح آمناً في سربه معافاً في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بما فيها" احمد الله وقليل من عبادي الشكور، الله سبحانه وتعالى يقول) لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ( الشكر ليست كلمة على اللسان، الشكر حالة تعتري العبد أنك أنت يا رب أنت الذي أكرمت وأنت الذي أعطيت، فلك الحمد ولك الثناء، استعمل هذه النعمة فيما يرضيه لا تستعملها في معصيته، لا تستعملها في محاربته، لا تستعملها في الإعراض عنه )حَقَّ تُقَاتِهِ( لزوم حق تقاته بالتزام أوامره واجتناب نواهيه، وكذلك بأن يشكر فلا يكفر و أخيراً أن يذكر فلا ينسى، كم نذكر الله في اليوم؟ ليس ذلك الذكر الميت على اللسان، وإنما ذلك الذكر الذي وصفه الله عزَّ وجل عندما قال: )إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( نعم هذا ما ينبغي أن يكون؛ أن تكون ألسنتنا رطبة بذكر الله وأن يكون حضور مراقبة الله حياً في قلوبنا، وهذا يستلزم أن يكون قلبك ولسانك وأعضاؤك دائما في حالة حضور مع الله سبحانه وتعالى.
أسأل الله أن يحي قلوبنا بذكره وأن يوفقنا لالتزام حدوده وأن يجنبا الوقوع في معصيته، التقوى أن نلاحظ مسؤولياتنا تجاه القريب والبعيد الوالدين والبعدين، ألم يقل الله تعالى )وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً# إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ (
أيها المسلمون، إذا شعرتم بالضائقة وشعرتم بأن الحياة أصبحت منكسة فيما كنا نتمتع به من نعم، فلنعد إلى الله ولنتق الله ولنصلح من حال أنفسنا ولنخطُ خطوة تقربنا إلى الله عزَّ وجل يقول ربنا في الحديث القدسي الصحيح " ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ومن تقرب إلي دراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة"
أسأل الله تعالى أن يحيى قلوبنا بالتقوى، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً وأن يفرج عنا فرجاً قريباً إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين
خطبة الجمعة 22/01/2016


تشغيل

صوتي