مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 13/11/2015

خطبة د. توفيق البوطي: ثوابت الدين الإسلامي بين الإفراط والتفريط


ثوابت الدين الإسلامي بين الإفراط والتفريط
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شانه في كتابه الكريم: )وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً( وقال سبحانه: )وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً( روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود t قال قال رسول الله r:"أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" أي في قتل النفوس، وعن عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري فيما رواه الشيخان أيضاً قالا: قال النبي r: "إن بين يدي الساعة لأياماً ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج، قيل ما الهرج؟ قال: القتل" وفي رواية لمسلم: "والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيما قتل، ولا المقتول فيما قُتل"
أيها المسلمون، ظاهرة التطرف والعنف التي نراها أمام أعيننا اليوم قد أخبر عنها النبي r محذراً منها ومن أهلها، فقد روى البخاري عن علي t قال: سمعت النبي r يقول:" يأتي في آخر الزمن قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجرٌ لمن قتلهم يوم القيامة" أجل، ما نعيشه في هذه الأيام من فتنة شاع فيها القتل وتفشى فيها الإجرام، والقتل هنا نراه يمضي عشوائياً، فلا يدري القاتل فيما قَتَل، ولا يدري كما وصف النبي r المقتول فيما قُتل، أناس احتشدوا في مسجد لسماع درس ما ذنبهم أن يقتلوا جميعاً باستهداف شخص ما؟ ما ذنبهم؟ وأن تعج السوق بالناس من نساء وأطفال وشيوخ وشباب فيقذفون بالقذائف القاتلة، فيموت منهم الكثير؟ فيم قتلوا؟ وماذا فعلوا؟! وما جريمتهم! وما المبرر والمسوغ لقتلهم؟! إنه الجهل، الجهل الذي دفع بأصحابه إلى ممارسة أقذر أنواع الجرائم وأسوئها وأشرسها. ولا يحسبن امرؤ أن المسألة خلاف عقائدي أو خلاف مذهبي؛ لا، إنما هو الإجرام للإجرام، والفتنة بغية الفتنة. لأن البريء الذي يُقتل بريئاً لمجرد كونه من جماعة أو من فئة أو من قرية أو من عشيرة فإن هذا لا يسوغ قتله، حتى في المنطق الجاهلي.
أمر عجيب، ولكن لا عجب بعد أن أخبرنا النبي r عن أنه من علامات يوم القيامة، ومن مفرزات الجهل وانحسار العلم، يشيع فيها الجهل ويرفع فيها العلم، ينحسر، يحتكم الناس إلى الأهواء إلى الأحقاد. ولطالما قلنا وكررنا وحذرنا من أن هذه الخطوات التي كانت قبل خمس سنوات تقريباً ستفضي بنا إلى فوضى ممنهجة مخطط لها، ولكن استكبر البعض، وأغمض البعض عينيه وسد أذنيه، حتى وصل الشر إلى بيته وإلى أهله وإلى قريته؛ لأن الأمر لابد أن يتم، لكن أن يتم على يديك فأنت الذي تتحمل المسؤولية، والذين سوغوا ما كان يجري في تلك الأيام يتحملون مسؤولية كل قطرة دم سفكت وتسفك في بلادنا نتيجة تلك الفتنة التي أشعلت في تلك الفترة. ولطالما حُذِر منها وها هي ذا تفعل فعلها، وما حادثة الأمس في لبنان إلا واحدة من حوادث كثيرة، مساجد دمرت ومشاف دمرت وبنية تحتية للوطن كله دمرت، من أجل ماذا؟ سل الذي فعل ذلك: لماذا؟ سيقول لك هكذا أمره أميره، شيطانه هكذا أمره الشيطان الذي تلبس بلبوس رجل له لحية، وقد تكون له عمامة أيضاً، ليغطي فتنته بمظهر ديني، والدين بريء بل إن الدين يحذر من ذلك، ويعده من أقذر أنواع الإجرام التي تجري في هذا العصر، ويأمر بأن توضع الحدود التي تحول دون انتشار وتفشي مثل هذه الظواهر.
أيها المسلمون، لاشك أن نسبة هذه الفتنة إلى الدين هي جزء من المؤامرة نفسها وجزء من الكيد نفسه، لم يعد خافياً أن وراء ما يجري دولاً معادية تريد تشويه الإسلام ونشر الفتنة في بلادنا، ونشر الفتنة في بلادنا: من المستفيد منه، كلا الطرفين كان خاسراً، المستفيد الوحيد شيطان الأرض الخفي والظاهر، أما الخفي فهو إبليس، وأما الظاهر فهو إسرائيل وأميركا؛ هما المستفيدان على الصعيد المادي، لأن في ذلك خدمة لأهدافهما، ولأن تلك الدول التي تحالفت لتكريس هذه الفتنة إنما كانت تسعى لتوفير الأمان للدولة المسخ المزروعة في صدر بلادنا، تريد تحقيق الأمن لتلك الدولة على حساب دمائنا وسلامة أوطاننا، من خلال إثارة فتنة بين أبناء الدين الوحد والوطن الواحد، بين أبناء هذا المجتمع الذين عاشوا على تباين اتجاهاتهم وتعدد دياناتهم؛ لم يكن بينهم من الصراع ما نجده اليوم بين أبناء البيت الواحد، لكنها الفتة.
على أن ظاهرة التطرف التي أشير إليها الآن لها أسباب لابد أن نضع أصابع الاتهام إليها، وأن نوجه الأنظار إليها. التطرف يولد التطرف، والتفريط يولد الإفراط، من المؤسف أن كلا الطرفين المتطرفين وكلاً من المفَرطين والمفْرطين كلاهما يلبس مظهراً دينياً والدين بريء منهما، الغلو في الدعوة إلى تكفير المخالفين واستباحة دمائهم تطرف يتحمل مسؤولية كثير من الجرائم التي تقع في بلادنا باسم الإسلام والإسلام منها بريء، بل الإسلام يمنعها ويحرمها. والتوجه المفرط بثوابت الدين تطرف أيضاً يمنح التطرف الأول الحجة والمسوغات لتطرفه في الإفراط. الذين يفرطون بثوابت الدين يعطون الحجة للمغالين ليمارسوا غلوهم، فكلاهما وجهان لحقيقة واحدة اسمها التطرف، ويؤديان نتيجة واحدة هي الفتنة في الأرض، إن ظهور كلا شكلي التطرف الآن من فريق يريد تعطيل شريعتنا وشل ديننا، وينسب إلى المسجد والدعوة الإسلامية مظاهر الفتنة التي نراها، هذا تطرف وإفساد هو شقيق وهو متكامل مع ظاهرة التطرف التي نراها منتشرة هنا وهناك من خلال التفجيرات وغير التفجيرات، كلاهما يحقق هدفاً واحداً.
ما يجري الآن أيها الأخوة أيها المسلمون نلاحظ ولاحظوا التوقيت بعد أن بدت مظاهر انحسار الفتنة أو بوادر انحسار الفتنة وتقهقر مظاهر الشر المستورد – ولله تعالى في ذلك الحمد والمنة - لاحظوا التوقيت في هذه الفترة بالذات نجد كلا التطرفين يظهر على الساحة، تطرف من يريدون إهمال الدين والشريعة.. وتطرف من يريدون أن يركبوا متن الدين وباسمه ينشرون القتل وينشرون الفتنة، وكلاهما شريك في محاولة إجهاض فرصة تراجع الأزمة، ويشكلان دوراً فاعلاً في الحرص على تمادي الفتنة واستمرارها، على أننا نقول )وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ( كلما نفخوا في نار هذه الفتنة فإن هذه البلاد موضع كفالة الله، فإن هذه البلاد موضع رحمة الله، فقد صح بالطرق الكثيرة حتى بلغت درجة التواتر أن الله تكفل لنبيه r بالشام وأهله. ولاشك أن سياط التأديب لابد ان تنالنا، ولكن في الوقت ذاته لابد أن تتداركنا الرحمة الربانية، والله غالب على أمره؛ مهما حقد الحاقدون، ومهما أفسد المفسدون. مرجعنا إلى الضوابط الشرعية وإلى تحذيرات النبي r، ويد الإفساد لابد أن توضع الحدود في وجهها ولابد أن تُكَف حتى تعود بلادنا آمنة مطمئنة بإذن الله تعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 13/11/2015


تشغيل

صوتي