مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 18/12/2015

خطبة د. توفيق البوطي: إن الله بعثني رحمة


إن الله بعثني رحمة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه الكريم في وصف النبي r: )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( ويقول جلَّ شأنه: )مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ( ويقول سبحانه في وصفه r ( وإنك لعلى خلق عظيم) ويقول جلَّ شأنه: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك والترمذي في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص t أنه r قال: « الراحمون يرحمهم الله، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه»
أيها المسلمون، النبي r وفي ذكرى مولده ينبغي أن نتأمل سيرته العطرة وشمائله الكريمة وهديه العظيم، لنجدد العهد على اتباعه والسير على هديه والتمسك بشريعته والتزام أوامره واجتناب نواهيه، النبي الكريم الذي تحارَب شريعته اليوم باسم شريعته، ويحارب دينه باسم دينه في تطرف قذر يأخذ شكلين، شكل يظهر الإسلام في أشد أنواع العنف، وتطرف آخر يريد أن يتخلى عن الإسلام لأنه العنف، بينما رسالة النبي r هي الرحمة المهداة، هي الخير كله، وغيرها شرٌ كله، هذه الرسالة هي الرحمة وما سواها قسوة وبغي وعدوان، الله جل شأنه بين هدي نبيه r بكلمة قال ) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( للعالمين كلهم إنسهم وجنهم جماداتهم وحيواناتهم ونباتاتهم، صغارهم وكبارهم مسلميهم وكفارهم، واليوم نتأمل بعض ملامح الرحمة التي أرسلها الله عزَّ وجل من خلال شخصه r، هو رحمة للبشرية كلها، ولاحظوا رحمته r بخصومه.
أما رحمته بعموم الأمة فالحديث لا يحتاج دليل ولا برهان لكننا سوف نعرج عليها إن شاء الله، لاحظوا أن ألد أعداء النبي r لم يكونوا من الكافرين، وإنما فئة من الناس اندست بين المؤمنين وادعت الإيمان فحاربت الإسلام تحت مظلة الإسلام، إنها فئة النفاق فهل تعامل النبي r مع هذه الفئة السيئة التي أفرد لها كتاب الله الكثير من البيان والتحذير بشأنها، الله سبحانه وتعالى ألهم النبي r أن يتعامل مع المنافقين بالرحمة والشفقة والصبر عليهم، ومواقف عبد الله بن أبي بن سلول وحزبه من الدعوة الإسلامية منذ اليوم الأول، ولا سيما في غزوة أحد فما بعدها، كانت جلية في عدوانيتها وفي حقدها على الإسلام وتآمرها على الإسلام وتعاملها مع أعداء الإسلام ضد الإسلام، ومع ذلك صبر النبي r عليها وتعامل معهم بالرحمة، لم يدع عبد الله بن أبي بن سلول فرصة للإيقاع بالمسلمين إلا واستغلها، حتى إنه أراد أن يحدث فتنة بين الأنصار والمهاجرين في غزوة المريسيع، حيث قال تلك الكلمة البشعة: ( ما نحن وجلابيب قريش إلا كمن قال سمن كلبك يأكلك) هذه الكلمة كانت كافية لضرب عنقه، لأنه أساء بها إلى الدولة الإسلامية في ركنها المتمثل في رسول الله وأصحابه الذين جاؤوا من مكة، فماذا كان رد فعل النبي r؟ سيدنا عمر t وجد أن من المناسب أن تضرب عنقه، فقال النبي r « أتريد أن يقول الناس إن محمد يقتل أصحابه، بل نصبر عليه مادام بيننا» ويأتي عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول إلى النبي r، وهو مؤمن ليس كأبيه، ويطلب من النبي r أن يأذن له في أن يضرب عنق أبيه ويأتيه برأسه، فقال له النبي r: لا، بل نصبر عليه مادام بيننا، ويمرض عبد الله بن أبي بن سلول ويموت ويرق قلب ابنه عبد الله ومن حقه أن يرق قلب الابن على أبيه لأنه كان منافقاً، والموت يعني أنه أفضى إلى نتائج نفاقه.. إلى النار، فأتى النبي r متأثراً وقال للنبي r: (يا رسول الله لو أعطيتني قميصك لأكفن به أبي عسى أن يخفف عنه) فما كان من النبي r إلا أن خلع قميصه، وأعطاه لعبد الله ليكفن به رأس النفاق، هكذا تعامل النبي r مع أشد الناس عداء له، ولم يكتف بذلك بل جاء عبد الله بن عبد الله يرجو النبي r أن يصلي على أبيه، فخرج النبي r الرحمة المهداة من أرسله الله رحمة للعالمين رحمة بعبد الله بن عبد الله لا بعبد الله بن أبي لكن رحمة بابنه الذي أشفق على أبيه، فما كان من النبي r إلا أن قام وصلى عليه، هكذا تعامل رسول الله r مع من؟! مع رأس النفاق، كانت هذه المعاملة سبباً في امتصاص مشاعر الحقد التي زرعها هذا الرجل في نفوس كثير من أبناء المدينة المنورة، فما كان منهم إلا أن انقلبوا عليه بعد أن كانوا معه، لأن الرحمة تشتري القلوب، لأن الرحمة إصلاح، لأن الرحمة تجتذب النفوس. أما العنف الذي ولدته مصانع أميركا من خلال إسلام صنعته لتدمر الإسلام باسم الإسلام، فإنه صوّر الإسلام على أنه فظاظة، على أنه شدة، على أنه قسوة؛ هم صنعوه ليشوهوا به الإسلام، هم ابتكروا تلك الطريقة القذرة ليظهر الإسلام في صورة عنيفة فظة غليظة ليحاربوا الإسلام باسم الإسلام.
رحمته r بالمؤمنين، يقول النبي r: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ » أرحم بهم من أنفسهم، نعم هو أرحم بنا من أنفسنا، نحن نجتذب أنفسنا إلى نار جهنم باتباعنا أهواءنا وهو r يقف بيننا وبين النار حاجزا يخاف علينا، ماذا يقول النبي r؟: «فأيما مؤمن ترك مالاً فلورثته، فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا – ليس عنده سداده – أو ضياعاً – أسرة ليس هناك من يكفلها – فليأتني فأنا مولاه» هذه هي الدولة الإسلامية وهذا هو المجتمع الإسلامي، هذه هي الرحمة الربانية المتمثلة في كفالة النبي r في رعايته للأمة ومن بعده شريعة الله تتكفل بالأمة امتداداً لكفالته.
رحمته بالكفار من أعدائه: كم صبر على أذاهم؟ ثلاثة عشر عاماً وهم يذيقونه ألوان الاضطهاد والقهر، ألوان التعذيب، ألوان المحاربة. كم تآمروا على حياته لقتله! كم فعلوا بأصحابه! أما النبي r فعندما تمكن منهم – هناك موقفان تمكن فيهما النبي r من الكفرة؛ الموقف الأول عندما رده أهل الطائف بأسوأ رد؛ تطارده شتائمهم وحجارتهم، حتى أوى إلى ظل حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة وناجى ربه ودعا ذاك الدعاء الذي اهتز له عرش الرحمن: «اللهم إني إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حليتي وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني؟ أم إلى قريب ملكته أمري؟ اللهم إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي » ويأتيه جبريل ومعه ملك الجبال يقول له: ( إن شئت يا محمد أطبقت على قريش الأخشبين ) أهلكتهم بأن أطبق الجبال عليهم، فيقول النبي r: « لا، بل إني لأرجو أن يأتي من أصلابهم من يؤمن بي فيدخل الجنة » إن لم يؤمنوا هم فليؤمن أطفالهم فالمستقبل لهذا الإسلام، المستقبل لهذا الدين، فلعلهم إذ عاندوا أن يأتي من أصلابهم من يؤمن بي فيدخل الجنة، وعندما قال أحدهم: يا رسول الله ادع الله على المشركين، قال: «إن الله بعثني رحمة ولم يبعثني لعاناً» رفض أن يدعو الله على المشركين ويصف رسالته ودعوته فيقول: « إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيتقحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يتقحمون فيها» وصف نفسه برجل أوقد ناراً فجعلت الحشرات تهوي إلى تلك النار، [معروف أن الفراش تجتذبه النار والمصابيح] فتقع فيها فتهلك، فجعل الرجل يأخذ بها ويبعدها لئلا تحترق بالنار، يقول: أنا الذي آخذ بحُجَزِكم وأبعدكم عن النار )حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (
رحمته r بالأطفال: يمسح على رؤوسهم ويقبلهم؛ بل كان يعطي باكورة الفاكهة لهم يخصهم بها.
أما رحمته باليتيم: فيقول: «أنا وكافل اليتيم كهاتين» سيكون مع النبي r في الجنة، أما من أكل مال اليتيم فليوطّن نفسه لما توعد الله به من يأكل أموال اليتامى ظلما ) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (
رحمته بالحيوانات: حتى الحيوان نال قسطاً من رحمة المصطفى r، أحل الله لنا أكل الأغنام والماشية والأبقار وغيرها، ولكن لم يحل لنا تعذيبها ولا الإساءة إليها، علينا أن نطعمها إذا جاعت ونرعاها ونُعنى بها، ولكن «إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليرح أحدكم ذبيحته وليحد شفرته» وقال النبي r: «اتقوا الله في هذه البهائم فاركبوها صالحة وكلوها صالحة » أشفق النبي r على الدواب كما يشفق على الإنسان لأنها روح وقال: «دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش النار» دخلت النار بسبب هرة عذبتها بالحرمان من طعامها وشرابها، وقال: «غفر الله لرجل في كلب سقاه». نعم هذا هو ديننا وهذه رسالة حبيبنا المصطفى r، وليست رسالة القتل والعنف والإجرام.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 28/8/2015


تشغيل

صوتي