مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/11/2015

خطبة د. توفيق البوطي: على خطى نور الدين الشهيد


على خطى نور الدين الشهيد
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون، يقول الله جلَّ شأنه في كتابه الكريم: ) سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ( وقال جلَّ شأنه: ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( وقال سبحانه: )مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً( وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: " أن النبي r صلى إلى بيت المقدس ستة عشرا أو سبعة عشر شهراً وكانت تعجبه أن تكون قبلته إلى البيت " أي الكعبة المشرفة، وروى ابن حجر في المطالب عن أبي هريرة t، عن النبي r قال:" لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة "
أيها المسلمون، ما أظن مسلماً يخفى عليه فضل بيت المقدس والمسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، فقد حض النبي r على زيارته، وبشر بفتحه، فبين أن أول الأحداث الخطيرة التي تمر بالأمة وفاته r، وأن الحدث الكبير الذي يلي وفاته فتح بيت المقدس. المسجد الأقصى الذي ربط رب العزة بينه وبين المسجد الحرام في الرحلة القدسية التي أكرم الله تعالى بها نبيه r في ليلة الإسراء فقال: )سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ( لبين تلك الرابطة التي توضح وحدة الرسالات السماوية وأن مصدرها واحد، بل إن الحديث الصحيح أن المسجد الأقصى بني بعد المسجد الحرام بأربعين عاماً، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على خطورة شأنه وعظيم الأمانة التي تركها سلفنا الصالح بين أيدينا، ولكن للأسف أضعناها، أيها المسلمون استهدف المسجد الأقصى وبيت المقدس كثيراً، مع أن سيدنا عمر t أنصف الناس في ذلك فأنصف المسحيين وأنصف اليهود الذين كانوا يعبثون بقدسيته، وحمى الكنائس التي كانت في القدس وما حولها، وحمى الصخرة المقدسة والمسجد الأقصى، والعهدة العمرية التي تحفظ حقوق أهل الكتاب في الدولة الإسلامية موجودة، يعرفها الكثير من المثقفين المسلمين وغيرهم، مع ذلك تعرض المسجد الأقصى وتعرضت القدس لاعتداءات خطيرة قام بها الصليبيون الذين ليس لهم صلة بسيدنا عيسى سوى الدعوى الكاذبة، وباسم المسيح وننزه المسيح عن ذلك، قاموا بغزو بلادنا وغزو بيت المقدس. وفي الوقت الذي كان دخول بيت المقدس على يد سيدنا عمر بسلام وأمان وعهدة تاريخية تحفظ الحقوق، دخل أولئك المجرمون إلى بيت المقدس على أشلاء أهل بيت المقدس مزقت المصاحف وانتهكت الحرمات وقامت المجازر التي سطر التاريخ أخبارها بمآسيها وبصورتها الدامية، كانت تلك فرصة بالنسبة لهؤلاء المجرمين؛ لأن المسلمين شغلوا بأنفسهم عن أنفسهم، وشغلوا بخلافاتهم عن القضية الأهم وتخلوا عن وحدة الكلمة، فكان تشتت الأمة سبباً في اغتيالها وانتهاك حرماتها والدوس على حقوقها. قد يستغرب الإنسان من طول مدة بقاء أولئك الغزاة في بلادنا، فقد قارب بقاءهم قرنين من الزمن، لا أقول ستين عاماً بل قرنين من الزمن، إلى أن قيض الله تعالى للأمة السلطان نور الدين زنكي، الذي جاء من الموصل هو والذين معه، وهو كما هو معلوم أعجمي كردي، لكن قلبه كان ينضح بالإيمان، وكان هذا الإيمان قد بعث فيه الغيرة والحرص على بيت المقدس وعلى وحدة الأمة وعلى سلامتها وكرامتها، وتمكن وهو ولي أمر هذه البلاد – رحمه الله – من أن يرسم طريق استعادة بيت المقدس، والطريق هو إعادة بناء الأمة، فأمتنا بحاجة إلى إعادة بناء، تحدث الناس ويتحدثون عن إعادة الإعمار، نقول إعمار اللبنات والدعائم للبيوت والمساكن أمر ليس صعباً، على الرغم من كل الدمار الذي ألحقته الفتنة ببلادنا لكن إعادة إعمار الأمة أمر يتطلب جهداً أكبر، وعملاً جاداً وسعياً حثيثاً وبرامج صحيحة تستمد من دورس التاريخ وعبره آلية العمل الصحيحة. حرص على نشر الدعوة لتصحيح العقيدة والسلوك والأخلاق مستعيناً بالعلماء الثقات لا العلماء الذين يبيعون أنفسهم، بل ممن يوثق بعلمهم وصلاحهم وتقواهم، لمباشرة خطة الإصلاح. أنشأ المدارس، وسفح قاسيون هذا بنيت عليه مئات المدارس وبعضها لا يزال موجوداً – كمدرسة الصاحبة، وغيرها تلك أطلال وكثير منها لايزال موجوداً، من حلب إلى دمشق إلى غيرها. بصمات صلاح الدين الأيوبي ونور الدين الشهيد لا تزال ماثلة أمام أعيننا لتبين طريق بناء الأمة. لقد استعان بالعلماء الثقات من مرشدين وأهل تصوف في إصلاح أخلاق الناس وسلوكهم، وكان هو نفسه- نور الدين زنكي - يحضر تلك المجالس تلميذاً ومعه قادته لكي يستضيئوا بإرشادت المرشدين. حرص على العدل وسمع نصح الناصحين ومشورة المستشارين، كان حازماً مع ذوي الرعونات والمنحرفين. واهتم ببناء الجيش بناءً صلباً متيناً. ومن ذلك الجيل الذي أعده، الجيل الذي أعده بالمدارس وبمجالس الذكر والتربية والعلم جعله الجيش الذي سيبدأ به المرحلة الجديدة في استعادة الأرض وطرد الغزاة منها، اختار أهل الصلاح من أهل الخبرة والمعرفة، واختار صلاح الدين قائداً ثم صار سلطاناً، والذي طهر مصر أولاً من الفساد الذي كان فيها، مصر كانت تعج بما يسمى بالمصطلح السياسي المعاصر بالعملاء؛ الذين كانوا يبيعون الأرض مقابل الكرسي، ويبيعون كرامة الأمة ويبيعون حقوقها للأوغاد الصليبين مقابل الإبقاء على زعامات مزيفة.
عبد الاستعمار لا يكون حراً ولا ينشئ أمة حرة، والمتقممون لنفايات أمريكا والغرب لا يمكن أن يوثق بهم ليصنعوا تاريخنا أو ليصنعوا مجدنا ولا لبناء حرية ولا لإصلاح أمة. أراد صلاح الدين أن يبني جيلاً طاهراً، فذهب إلى مصر فطهرها من أولئك الذين ينحنون للصليبين في سبيل الإبقاء على كرسي مزيف، نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي لم يكونا من أهل فلسطين، ولا من أهل غزة ولا من أهل الشام؛ بل كانوا من بلاد بعيدة بعض الشيء، ولكن شيئاً كان يربط قلوبهم ببيت المقدس هو دينهم وإيمانهم وغيرتهم على تلك المقدسات التي ائتمنهم سيدنا عمر t عليها؛ بل ائتمنهم رب العزة جلَّ شأنه عليها يوم نصر المسلمين بالعدل والحق والإيمان.
واليوم بيت المقدس أسير، تعبث به أيدي أولئك المجرمين نفايات الشعوب. تعبث بمقدساتنا، وهي اليوم تهدد بقاء المسجد الأقصى بين لحظة وأخرى، فهو معرض للانهيار ليبنوا في مكانه لأنفسهم صرحاً يجسد عدوانيتهم وتاريخهم الملطخ بالعار بالإجرام، بالفساد والعدوانية، متمتعين بحماية من أولياء أمر من رسموا الربيع العربي. اليوم المقادسة المرابطون الذين يواجهون أكبر ترسانة عسكرية في الشرق بأجسادهم بحجارتهم بصمودهم بإرادتهم بصلابتهم بغيرتهم على المسجد الأقصى خذلناهم، خُذلوا والنبي r يقول:" المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه" أجل خُذلوا لقد ماتت الأمة... فلم تعد تسمع أنين المشردين ولا بكاء المطرودين من بيوتهم، ولم تعد تستيقظ قلوبهم غيرةً على المسجد الأقصى ولا على تلك المقدسات، الخليل وضعوا أيديهم عليها ودنسوا مسجد سيدنا إبراهيم الخليل، وهم يدنسون وينتهكون في كل يوم حرمة المسجد الأقصى، أما الأمة العربية والإسلامية فمشغولة بتحرير اليمن، ومشغولة بتحرير سوريا؛ لأن أولياء أمورهم عهدوا إليهم بذلك، إن جراحنا عميقة وألمنا ممض، نحن اليوم نطبق الآية منكسة) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ( نقول تفرقوا ولا تعتصموا )وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ( نقول تنازعوا وتفرقوا. اليوم تجد التحالف الصلب في ضرب بلد عربي صغير فقير، تدمر بيوته ويقتل أهله، تجد مائة دولة ترسل نفاياتها إلى هذا البلد تجتمع كلمتهم تحت رايات مزيفة لتدمير هذا البلد. استطاعوا أن يجمعوا كلمتهم، ولكن ليس تحت راية الإسلام وإنما تحت راية أميركا، اجتمعت كلمتهم وتحالفت صفوفهم، ونشروا الفتنة حتى في البيت الواحد، فغدا الأخ يكره أخاه والجار يكره جاره.
نحن بحاجة إليك يا نور الدين. نحن بحاجة إليك يا صلاح الدين لتعيد بناء الأمة التي مزقها ..العدوان الصهيوني القذر. نحن بحاجة اليوم إلى إعادة بناء أمة بدأ من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع لاسترداد الحق لاستعادة الكرامة لإيقاظ الإيمان.. لتصحيح المسار... لتوحيد الكلمة، لا تحت راية أميركا ولكن تحت راية لا إله إلا الله، لا راية لا إله إلا الله التي يضعونها هم زوراً وعدواناً، ولكن تحت راية التربية الإيمانية التي أرسى دعائمها رسول الله r إذ قال:" لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" التربية الإيمانية التي علّمَنا إياها كتاب الله: ) أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ (. نحن اليوم أشداء فيما بيننا رحماء على الكفار.
من أين نبدأ ؟ إن إصلاح الأمة هو الخطوة الأولى، ولنبدأ بالأقرب: لنصلح البيت، أنت مسؤول، أنت إن كنت ابناً أو كنت أباً أو كنت زوجاً أو كنت أخاً أنت مسؤول، فانظر فيما عهد الله إليك من مسؤولية، وليسألنك الله عمن هم في عهدتك، خطة الإصلاح يطول الحديث عنها، ولكنها ليست بمجهولة الأهمية ولعل حديثاً يدور حولها بشيء من التفصيل مستقبلاً، والخطوة الثانية هي جمع الكلمة؛ وهي نتيجة طبيعية إذا صلحت نفوسنا اجتمعت كلمتنا، إذا صلحت عقولنا وقلوبنا اجتمعت كلمتنا، جمع الكلمة الممزقة التي مزقتها الولاءات المختلفة يجمعها العداء لبعضنا وخدمة عدونا، يجمعنا التخلي عن المقدسات والتخلي عن أهلنا وضرب إخواننا، هناك تآلفوا وعلى أبواب فلسطين تنازعوا، وإذا بالحراب والبنادق بدلاً من أن توجه إلى العدو توجه إلى الأخ والأهل. نحن بحاجة إلى إعادة بناء العقول بناء الإيمان بناء القلوب بناء الفرد الصحيح في عقله في عقيدته في خلقه، أقول في خلقه وهذا ما ينبغي أن تلتفت إليه الجهات المعنية بكل مرافقها من الإعلام إلى التربية إلى المسجد إلى غير ذلك، أن تبذل كلها جهوداً متواصلة في إعداد الفرد السليم والبيت النظيف والأسرة الطاهرة والمجتمع المتماسك على الخلق والفضيلة، نحن بحاجة إلى إعادة بناء لكي ننتقل من البناء إلى التحرير، بناء الفرد فبناء الوطن فمواجهة العدو بصلابة وقوة، بكلمة واحدة لا بكلمات متناحرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 06/11/2015


تشغيل

صوتي