مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 30/10/2015

خطبة د. توفيق البوطي: قوا أنفسكم وأهليكم ناراً


قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيا المسلمون؛ يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ( وروى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله r يقول:" كلكم راع ومسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤول عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته " وروى البخاري أيضاً عن النعمان بن بشير y قال: سألتْ أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله، ثم بدا له فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي r فأخذ بيدي وأنا غلام، فأتى بي النبي r فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا، قال: ألك ولد سواه؟ قال: نعم، قال: فأُراه قال: فلا تشهدني على جور" في رواية فصل فيها فقال:" أكل ولدك نحلته مثل النعمان؟ قال: لا، قال: لا، قال: فلا تشهدني على جور " وعن النبي r قال: " حق الولد على والده أن يحسن اسمه ويحسن موضعه ويحسن أدبه " وقال رسول الله r:" إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أم ضيعه، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته "
أيها المسلمون؛ الحياة التي نعيشها ميدان مسؤوليات، وساحة واجبات وأوامر ونواهي يجب علينا أن نحرص على تنفيذها، والله تعالى لم يخلقنا في هذه الحياة عبثاً ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ# فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ( لم يخلقنا الله، خلقنا ليحملنا مسؤوليات أناطها بنا وهذه المسؤوليات بالدرجة الأولى نحن مسؤولون عن أنفسنا، فنحن مسؤولون عن أن نعتقد الحق فيما أمرنا بالاعتقاد به، وأن يكون طريقنا إلى هذا الاعتقاد طريق التبصر والفهم لا طريقة التبعية العمياء، ومسؤولون بالدرجة الثانية ومباشرة عن الزوجة والولد، ومسؤوليتنا عن الزوجة والولد مقدَّمة حتى على حق الوالدين، حقُ الوالدين ثابت في البر، فبر الوالدين أمر واجب ولا شك في ذلك وقد قرن الله تعالى بر الوالدين بتوحيده ) وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ( إلا أن الزوجة منك بالنسبة لحقوقها كأنت من نفسك، لأنها شريك لك في حياتك وأنت الذي تحملت مسؤوليتها، وولدك بضعة منك لذلك في مجال النفقة حق الزوجة مقدم، وعندما نقول مقدم لا يعني أن يكون ذلك مقدماً على بر الوالدين، وإنما في ترتيب أولويات وواجبات النفقة، أما بر الوالدين فهو مقدم على كل شيء بعد حق الله تعالى. أجل هناك حقوق تتعلق بالزوجة والأولاد، ثم كما أشرنا. حق الوالدين هذا أمر في غاية الأهمية والضرورة، ويلي ذلك حق الأرحام، يليه حق الجوار. الإسلام أنشأ مجتمعاً والمجتمع ليس مجرد أفراد، هم أفراد ينتمون إلى أسر، والأسرة الصغيرة تنتمي إلى أسرة كبيرة، والأسرة الكبيرة تنتمي إلى هذا المجتمع المتماسك الذي يجب أن نحرص على تماسكه وتضامنه وتعاون أفراده، وأن يمد كل فرد من أبناء هذا المجتمع يد العون والمؤازرة لبقية أبناء مجتمعه، وفقاً للأولويات التي أشرت إليها، أي الأسرة الصغيرة، ثم الأسرة الأبعد المتمثلة بالأرحام، ثم الجوار، ثم سائر أفراد المجتمع، يبقى أن علينا أن نتحمل مسؤولية الأسرة القريبة، أعني الزوجة والأولاد والوالدين فهم على درجة من الأهمية القصوى في حياتنا. مسؤولية المرء عن زوجته تتمثل كما هو معروف في فقهنا الإسلامي في السكنى والنفقة وحسن المعاشرة ، وأداء سائر الحقوق الأخرى، والمسؤولية عن الأولاد: النفقة وحسن التربية والرعاية والحماية من كل ما يعود عليهم بالأذى في دينهم ودنياهم إلى أن يزوجهم، وتمتد المسؤولية من أولاده إلى أحفاده، وإنها لمسؤولية، هناك مسؤوليات يجب أن تكون وفقاً للترتيب في درجات القرابة، ولكنها مسؤوليات مهما بلغت أهميتها لا تعفي من بعدها عن المسؤولية، حتى إن الفرد من أبناء المجتمع مسؤول عن سائر أفراد المجتمع؛ إن وجد منكراً أو وجد خطأ أو وجد سوءاً عليه أن يحمي مجتمعه من ذلك، والنفقة على الزوجة والأولاد مقدرة بوسع الإنسان وطاقته فإن الله تعالى قال: )لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ( في هذه الآية بشارة، إذا شكوت الضيق فإن الله سبحانه وتعالى سيجعل بعد العسر يسرا إن شاء الله، ثم إذا عجز الفرد عن تحمل أعباء حياته الشخصية من زوجة وأبناء فإن أبناء المجتمع كلهم مسؤولون مسؤولية مباشرة بعد مسؤولية الزوج والأب عن كل فرد من أفراد هذا المجتمع أن يوفروا له الحياة الكريمة والعيش الكفاف، كل هذا الكلام جعلته مقدمة بين يدي مسؤولياتنا عن أولادنا.
واقع أسرتنا اليوم في مجتمعنا هو واقع الإهمال للأسف، فالأب إن تحمل المسؤولية في بيته هو مجرد متعهد أسواق، وكما يقول بعض الآباء حمال، لا، أنت مسؤول عن تربية أبنائك عن تعليم أبنائك عن توجيه أبنائك عن حماية أبنائك وبناتك، عن صيانتهم من غوائل الحياة، فلربما تم غزو بيتك في عقر بيتك عبر وسائل الاتصال والإعلام، تُغزى أنت في عقر دارك، إن أهملت فأنت مسؤول )قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ( واحفظوا أولادكم احفظوا زوجاتكم ، احفظوا بناتكم ، احفظوا هذه الأسرة التي أنتم اخترتم أن تتحملوا مسؤوليتها يوم اخترتم الزواج وأنجبتم، فكان هذا النسل في عهدتكم وفي مسؤوليتكم، وعليكم أن تتحملوا المسؤولية الكاملة عنهم، نحن مسؤولون عن أبنائنا مسؤولون عن بناتنا. والغزو الثقافي قد اقتحم بيوتنا وغرف نومنا، وعاث في أسرنا فساداً، ومالم نتحمل مسؤوليتنا فنحن سننقف بين يدي الله عزَّ وجل ويسألنا عن تربية أبنائنا وبناتنا. أطفال بعمر الزهور نراهم قد عهد بتربيتهم إلى الشارع إلى الأزقة إلى رفاق السوء؛ يفسدون أخلاق بنتك أخلاق ابنك ويدمرون مستقبله وشخصيته، ليكون غداً وبالاً عليك عاقاً لك، مسيئاً إليك، يجر إليك العتب والإساءة؛ لأنك أهملت تربيته ضيعته في الصغر ثم لم تعد قادر على تربيته ورعايته في الكبر، تربية الولد لا تبدأ في الخامسة عشر، تربية الولد تبدأ من حين تختار أمه، ومن ساعة ولادته عليك أن تتحمل المرحلة التالية في تربيته.
أيها الأخوة أنا أعلم وكلنا يعلم أن الفتنة قد تركت آثاراً سيئة على الظروف التربوية لكثير من الأسر، لأن الأسرة تشردت ودخولنا في هذا النفق المظلم الذي أدخلتنا الفتنة فيه على الرغم من التحذير الذي كنا نحذر منه. دخول الأمة في هذا النفق أدى إلى كثير من النتائج السلبية على الأسرة وعلى الأبوين وعلى الأطفال، تركت بصماتها في تربية أولادنا، هناك مآسي تدمي القلوب نتيجة الإهمال، نتيجة أن الأب ينجب ثم يترك أولاده في الشارع ليتولى الشارع تربيتهم، ليتولى الشارع توجيههم، والشارع يغص بالوحل بالنفايات بالفساد، بكثير من العادات السيئة بكثير من السفهاء الذين يفترسون أبناءك ويفترسون بناتك ويدمرون حياتهم ويدمرون أخلاقهم ويدمرون تربيتهم. ذكرت لي القصص الكثير عن أطفال كالزهور تركوا للأزقة، ترى ما موقفك غداً بين يدي الله إذا أمسك هذا الطفل بتلابيبك يوم القيامة وهو يقول: يا رب أبي هذا ضيعني، ما هو جوابك؟ جوابك أنك كنت مع أصدقائك تسهر؟ جوابك أنك كنت تعمل دوامين؟ هذا ليس جواباً، لأن أولوية رعاية أبنائك بصفة مباشرة أو بصفة غير مباشرة مطلوبة منك، مطلوبة منك وعليك أن تتحمل مسؤوليتها، مسؤولية تربيته... توجيهه... تعليمه العقيدة الصحيحة والصلاة والعبادة والأخلاق القويمة الصدق والأمانة والبر والاستقامة وحسن التعامل مع الآخرين كل هذا مطلوب منك. مطلوب منك أن تتعاون مع بقية المؤسسات التربوية. وسائل الإعلام أصبحت لا يوثق بها؛ لأنها أصلاً ليست لجهة واحدة، قد صبت كل نوافذ النفايات في العالم إلى بيتك، بالإضافة إلى تقصير وسائلنا الإعلامية، أضف إلى ذلك المدرسة، أضف إلى ذلك المسجد، ترى هل التزمت بتوجيه طفلك إلى المسجد. يأتي الأطفال إلى المسجد دون رعاية دون توجيه لأنه والدهم مشغول، اصحب ولدك وعلمه أدب المسجد، علمه أدب التعامل مع المقدسات والمعظمات، لا تتركه لكي يعبث في المسجد أو حتى في المدرسة، كثيرون ممن يمضون ويتركون أولادهم وفق تصورهم أنهم ذهبوا إلى المدرسة، وأن المدرسة تتولى ملء هذا الفراغ من حياتهم..! لا أقول التعليم بل ملء الفراغ، هل تأكدت أنه ذهب إلى المدرسة؟ هل تفقدته أو تفقدتها في المدرسة؟ ما مدى استفادتها من المدرسة ما مدى المراحل التي أنجزتها من دروسها أو وظائفها أو من دروسه أو وظائفه، هل انتبهت لهذا كله؟ أم تركت الموضوع فخففت المدرسة عنك المسؤولية ؟ أنت المسؤول، المدرسة مسؤوليتها ثانوية... أنت المسؤول بشكل المباشر، كثير من المدارس تستدعي الآباء والأمهات في ما يسمى اجتماع أولياء الأمور، و بعض المدارس قد لا يتاح لها ذلك، ولكن أنت يجب أن تتابع الأمر ينبغي أن تتفقد ولدك وابنتك في المدرسة، وكذلك في المسجد وكذلك في الشارع، عليك أن تتحمل مسؤولية تربية أولادك فهم أمانة في عنقك، لا تجعل منهم سُبة لسيرتك، اجعل منهم ما يرفع من شأنك، هو امتداد لحياتك وهي امتداد لحياتك، أنت إذا مت انقطع عملك إلا من دعاء هذا الطفل لك أو عليك، فهو إن كان سيئاً في أخلاقه كان وبالاً عليك، وإن كان قد ربي التربية الصالحة كان كنزاً لك بعد موتك، وكأنك لم تمت. فأنت حي من خلاله، من خلال استقامته... من خلال استغفاره... من خلال عبادته ومن خلال دعائه لك، ادخر لنفسك ما يحلو لك أن تجده من بعد موتك، وادخر لنفسك ما يرضيك أن تجده بين يدي الله عزَّ وجل في رعايتك وحسن توجيهك لأولادك وزوجتك وبناتك.
أسأل الله أن يبصرنا مسؤوليتنا ويعيننا على تحملها.
خطبة الجمعة أيها الأخوة ليست مجرد كلمات تقال وآذان تسمع، وإنما هي مسؤوليات نلقيها على عواتقكم، وأسأل الله أن يعينني وإياكم على حسن تحملها وأن نباشر بتصحيح المسار وتقويم الاعوجاج وتحمل المسؤوليات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة30/10/2015


تشغيل

صوتي