مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 11/09/2015

خطبة د. توفيق البوطي: شروط النصر


شروط النصر
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم:) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( وقال سبحانه: )وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى #قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً # قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى( وقال جل شأنه:)فلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( وقال سبحانه في بيان ما أصاب الصحابة الكرام في غزوة أحد: )وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(
أيها المسلمون تعاني الأمة اليوم ومنذ سنوات من شدائد متوالية، فتنة عمياء أفسدت حياة الناس وعلاقاتهم، نزيف دموي ذهب بألاف الناس، ولعل بعضهم ذهب بيد أخيه أو بيد ابن عمه، فتنة دمرت الوطن ومزقت المجتمع ومكنت العدو وأبعدت الصديق، ولو تدبرنا الأمر لوجدنا أن ما يجري إنما هو ثمرة بعدنا عن ربنا تبارك وتعالى، فلقد ابتعد الناس عن نهج ربهم وإرشادات نبيهم المصطفى r سواء في عباداتهم أم في معاملاتهم أم في رعايتهم لأنفسهم وأولادهم أم في أداء الحقوق التي اؤتمنوا عليها أم في أداء الواجبات التي كلفهم الله عزِّ وجل بها، فلقد صارت وللأسف الشاشة ووسائل الاتصال المرشدَ والموجه لأكثر الناس في عصرنا هذا فوقع ما وقع، وكان من الممكن أن تكون المصيبة نعمة بنتائجها لو أنها أيقظت الناس من غفلتهم، إلا أن كثيراً من الناس تمادوا في الغفلة وأمعنوا في تنكب الطريق، والله سبحانه وتعالى يقول) :وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( ولعل العارض الجوي الذي أصاب بلادنا من خلال تلك العاصفة الرملية لعلها أزعجت الكثيرين بل لعلها قتلت البعض ممن لا يتحملون مثل هذه العاصفة الرملية الخطرة، ولكن لا تدري ماذا وراء هذه العاصفة من نعم يمكن أن يكرم الله تعالى بها البلاد بنتيجة الأمر، فهي التي يمكن أن تقتل الكثير من الآفات التي تضر بالمزروعات أو تضر البيئة من جهة أخرى، يقول الله تعالى في حادثة الأفك: )لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم( ظاهر الأمور شديد ومؤلم أما باطنها فبحسب ما يمكن أن يستفيد المرء نتيجة ما يصيبه، فإن أيقظته المحنة وأرجعته إلى ربه وأيقظت قلبه، فإنها والله نعمة وألطاف من الله سبحانه وتعالى، إن عصيّ التأديب إذا أيقظت العبد هي رحمة به.
ونحن اليوم في حرب ضروس شرسة مع الفتنة ومع أعداء الأمة من دول البغي والعدوان، وللنصر في المعركة شروط لابد منها، أشار إليها حديث النبي r الذي رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن ابن عباس y أن النبي r يقول:" احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئاً لم يرد الله أن يعطيك لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا على أن يصرفوا عنك شيئاً أراد الله أن يصيبك به لم يكن لينصرف، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا" هذه وصية للنبي r من شأنها أن تثبت القلوب، وأن تنهض بالمعنويات وأن تزيد ثقة المؤمنين بربهم فتدفع بهم إلى سبل طاعته وتدارك تقصيرهم، ومثل هذا وصية سيدنا عمر y لسيدنا سعد وهي موجهة للأمة كلها بكل فئاتها مدنييها وعسكرييها، لكل من يواجه هذه الفتنة العمياء التي أودت بالكثيرين وعركت في ثفالها الكثيرين، فعندما وجه سيدنا عمرy سيدنا سعداً بن أبي وقاص إلى حرب الفرس قال له: (( أما بعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل عدة على العدو وأفضل المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصرون على عدوهم بمعصيتهم لله )) سبب عدائنا مع أولئك خروجهم عن طاعة الله، فإذا عصينا نحن أيضاً استوى الطرفان، وهم أكثر عدة و عدداً منا، إذاً سيتغلبون علينا، أما إذا اتقينا الله في الوقت الذي هم ناصبوا ربهم العداء والمعصية فإن الله عزِّ وجل سوف ينصر التقي على الشقي، وسوف ينصر المحسن على المسيء سوف ينصر المسلم المستقيم على الفاجر المنحرف، ثم يقول عمر: (( يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل خال رسول الله r وصاحب رسول الله r، فإن الله عزِّ وجل لا يمحو السيء بالسيء، ولكنه يمحو السيء بالحسن، فإن الله سبحانه تعالى ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعتَه، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت عليه النبي r مذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه فإنه الأمر؛ هذه عظتي، إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين )) هذه وصية عمر بن الخطاب لسيدنا سعد بن أبي وقاص فكانت ثمرتها أن نبهت قلب سعد وأيقظت فيه دوافع الطاعة والالتزام وصدق الاتباع، فكانت نتيجة ذلك الانتصار، الانتصار على أقوى دولة باغية في ذلك العصر مستكبرة طاغية، لم تغنهم حصونهم ولم تفدهم أعدادهم ولا عدتهم انهزموا أمام الحق، وصار الفرس ممن رأوا في سيدنا سعد والصحابة الكرام الاستقامة على أمر الله والطاعة لله سبحانه والأمانة والاستقامة والعدل والخير بشائر انتصار للفرس على طغاتهم، فكان الفرس يساقون إلى المعركة بالسلاسل، بينما هم يريدون أن ينضموا إلى المسلمين ويقفوا إلى جانبهم، وقف كثير من الفرس إلى جانب الجيش المسلم عندما سنحت الفرصة لهم، هذا الذي حرك فيهم أسباب الوعي وإدراك حقيقة دعوتنا، فدعوتنا إلى الخير لا إلى الشر، إلى العدل لا إلى الظلم، إلى الإحسان لا إلى الإساءة، إلى حسن المعاملة لا إلى سوء المعاملة، إلى الأمانة لا إلى الخيانة، هذه مبادئنا وهذا منهجنا وبهذا ينتصر جيشنا وشعبنا وأمتنا ووطننا.
أقول هذا الكلام في الوقت الذي نعاني فيه لا شك في ذلك، ونحن نرى بأم أعيننا تألب الدنيا على أمتنا وتكالبها على وطننا.
لكنني في الوقت الذي أشعر فيه بمدى الخطر لا يفوتني أبداً ولا يفوتنكم الأمل الوطيد بكفالة الله لهذا البلد، أجل هناك ومضات نور تشرق علينا وتبشرنا أن هذه الأمة منتصرة بإذن الله تبارك وتعالى، فالشام محط عناية الله عزِّ وجل، أجل فنحن قد لا ننتصر بتفوق عسكري، ولكنا سننتصر بعناية ربانية، عندما أرى مساجدنا تعج بالأطفال الذين يتعلمون كتاب الله، تعج بالفتيات اللواتي يتقنّ تلاوة كتاب الله، عندما أرى مجالس العلم في مساجد بلادنا تغص ولله الحمد بالوافدين إثر الوافدين لدورات علمية بعد دورات علمية، ينهلون من معين ديننا ومن معين كتاب الله عزِّ وجل وسنة نبيه r أقول: إن المؤسسة الدينية في بلادنا مؤتمنة على هذا النشاط، وهي تؤدي الأمانة على الوجه الأفضل وهي تشجع وتنهض بمسؤولياتها بهذا، وانظروا إلى أطفالنا إلى بناتنا إلى نسائنا إلى شبابنا تعج بهم مساجد دمشق لأنهم موضع عناية الله عزِّ وجل، فلئن ضاقت صدور أولئك الذين يكيدون لهذا الوطن فإننا نقول لهم: قل موتوا بغيظكم فالشام محط عناية الله عزِّ وجل، وستنتصر بإذن الله عاجلاً غير آجل بمقدار إقبالنا على الله بمقدار إقبال هؤلاء الأطفال هؤلاء الشباب هؤلاء الفتيات على بيوت الله وبمقدار إقبال شبابنا على مواجهة العدو بقوة وإصرار.


تشغيل

صوتي