مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 28/08/2015

خطبة د. توفيق البوطي: خطوة في طريق معالجة ظاهرة الهجرة


خطوة في طريق معالجة ظاهرة الهجرة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله جل شأنه في كتابه الكريم: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقال جلَّ شأنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾، روى لبخاري عن أنس بن مالك t قال: (لما قدم المهاجرون المدينة من مكة وليس بأيديهم – يعني شيئاً - وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن يعطوهم ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة)، وروى الترمذي في الجامع الصحيح عن أنس t قال: لما قدم النبي r المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوماً أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنا حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي r: " لا، ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم"، وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر t قال: (لقد رأيتنا وما الرجل المسلم بأحق بديناره ولا بدرهمه من أخيه المسلم) .
أيها المسلمون، طافت ببلادنا أزمات كثيرة، ولعل الأزمة التي نعاني منها اليوم من أشد تلك الأزمات على الإطلاق، مرت ببلادنا أزمة اللجوء الفلسطيني بعد النكبة، ومرت ببلادنا بعدها أزمت حرب (67)، ومرت بعدها أزمة أخرى أعقبت حرب (73) في حرب اللبنان لأولى وحرب اللبنان الثانية، وقامت أيضاً أزمة بسبب حرب العراق، وأخيراً هناك أزمة طافت بين أهل بلادنا، طبعاً هي ليست بين أهل بلادنا بالمعنى الدقيق، ولكن استخدمت فيها في مرحلة من المراحل -ولا تزال- أيدٍ من أبناء الوطن ضد أبناء الوطن ولكن بتدبير خارجي، من كان يتذكر -والعهد ليس بعيداً- في حرب اللبنان الأخيرة عام (2006) فتح السوريون بيوتهم لإخوانهم اللبنانيون، وما أشعروهم إلا أنهم ضيوف على أهليهم وأقاربهم، وبذلوا لهم هنا وبذلوا لهم وهم يقاتلون العدو في جنوب اللبنان، وهذا كان أمراً ظاهراً وأمر طبيعياً بالنسبة لأبناء هذه البلدة المباركة، ما الذي حلَّ بالناس ؟ ما هذه الظاهرة التي تبعث على الأسى؟ ما هذا الانعطاف؟ كان عهدنا ببعضنا أن نتعاون ونتواسا وهذا ما كان عليه أصحاب رسول الله r يوم الهجرة كما قرأنا في الآيات والأحاديث التي سبق ذكرها، ما الذي حدث اليوم حتى يستغل الأخ ألم أخيه وتشرد أخيه! بكل جشع وأنانية وأثرة يستغل حاجته فيحاول لي ذراعه، وإيلامه من اليد التي تؤلمه، أما يكفيهم ألماً أنهم شردوا، ألا يكفيهم ألماً أنهم فقدوا مزارعهم وفقدوا بيوتهم وفقدوا فرص عملهم بسبب هذه الفتنة القذرة التي صفق لها الأغبياء ثم حصدوا نتائجها، ظنوا أنها مفتاح خير ونسوا أن العدو لا يريد بنا خيراً، لكن على كل حال هذا أمر صار واقعاً وينبغي أن نتعامل مع الواقع، أين نحن من قوله تعالى: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ حتى سمعنا أن الأخ غدا يستغل أخاه بكل أنانية وجشع، وهل نحن إلا أخوة ؟ وهل نحن إلا أهل؟، وإذا كنت اليوم تتمتع ببيت زائد أو غرفة زائدة فلربما انقلبت الأمور فصرت أنت المشرد وصار المشرد صاحب بيت، كيف ينبغي أن يتعامل معك؟ وهل بساط النعمة قد تمكن تحت قدميك؟ وهل أنت مطمئن أن لا تنقلب الأمور لا سمح الله فيغدوا أهل لمدينة مشردين ويستقبلهم أهل الريف؟ هناك أمور ينبغي أن ندركها إدراكاً جيداً دنيوياً بالمعايير الدنيوية والاقتصادية، وأخروياً في ميزان الشريعة الإسلامية وفي ميزان معرفة الحقائق الربانية، النبي r يقول لنا: "ما نقص مال من صدقة"، "ثلاثة أقسم عليهن ما نقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا عفى رجل عن مظلمة ظُلمها إلا زاده الله عزاً فاعفوا عمن ظلمكم يعزكم الله، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب الفقر"، النبي r يقول: "حصنوا أموالكم بالزكاة ودووا مرضاكم بالصدقة، وأعدوا للبلاء الدعاء"، ويقول r فيما رواه البخاري: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً" الشحيح الذي يمسك عن مساعدة إخوانه يدع عليه الملك كل يوم (اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، والسخي الذي يبذل المال في مساعدة إخوانهم والنهوض بحاجاتهم يقول له الملكان (اللهم أعط منفقاً خلفاً)، والنبي r يقول:"ما نقص مال من صدقة "، وتأكد أيها المسلم أن ما تبذله من مؤازرة ومعاونة وتضامن مع إخوانك الذين أوقعت بهم الأزمة في هذه الحالة التي نحن فيها إلا كانت فائدة مساعدتك وتعاونهم معه عائدة عليك أنت، ليست المحنة في الفقر، فقير اليوم قد يغدوا غنياً في الغد، وكثيرون من رأيناهم أغنياء فأصبحوا فقراء، أو فقراء فأصبحوا أغنياء، المحنة في الشح المحنة في الأثرة والأنانية، المحنة في البخل ؛ لأن هذا البخيل هذا الشحيح هذا الأناني يحرم نفسه، يحرم مجتمعه، ويعود بالضرر على نفسه قبل أن يعود على المجتمع، ما من مجتمع يتباذل أبناؤه ويتعاونون ويتراحمون ويتعاطفون إلا أسرع إليهم النصر والفرج والبركة بإذن الله تعالى، وهذا أمر مشاهد أهل المدينة المنورة عندما استقبلوا إخوانهم من المهاجرين هل ضاقت المدينة المنورة بالمهاجرين أم أنها ازدهرت ؟ ازدهرت الأوضاع الاقتصادية لأهل المدينة وبورك لهم وتحسنت أوضاعهم الاقتصادية أجل، وصار الجهد جهدين وإن كان المال واحداً، أي أن الانتاج سوف يتضاعف ويعود بالخير على الجميع، وكذلك الأمر عندما تعاون أهل هذه البلاد في مواجهة أزمات وقعت هل أضر تعاونهم مع أولئك الذين أصابتهم الأزمة بآلامها هل عاد عليهم تعاونهم بالضرر أم بالنفع؟؟ أقول لو أننا درسنا الأوضاع الاقتصادي والاجتماعية لوجدنا أنه عاد تعاونهم عليهم بالنفع، لأن هذا المجتمع ينهض بأبنائه، المال هو جزء من الفعالية الاقتصادية، الفعالية الاقتصادية هي الجهد هي الأدمغة هي الأيدي العاملة هي القدرات البشرية التي تحول الأرض إلى انتاج إلى عطاء، تضاعف الطاقة الانتاجية لهذه البلدة لكن هذا الأمر يضيق الآن المجال عن شرحه من الناحية الاقتصادية، وما من مجتمع يتدابر أبناؤه وتحكمه الأنانية والأثرة إلا أسرعت إليهم الضائقة، وما نعانيه اليوم لا يبشر بخير، لا بسبب الأزمة وإنما بسبب الأنانية والأثرة والاستغلال والجشع الذي يتعامل به لناس مع بعضهم، يستغلون حاجات إخوانهم الذين ضاقت بهم السبل، يحاولون أن يستغلوا حاجاتهم إلى الغرفة أو إلى فرص العمل أو إلى غير ذلك .
أيها المسلمون، إن واجب المقتدر البذل، وواجب الآخذ العمل والوفاء، إن واجب المقتدر أن يبذل، واجب الآخذ العمل الوفاء لمن بذل له، وهذا ما كان من أهل المدينة المنورة، عبد الرحمن بن عوف نموذج متكرر في كثير من الصحابة الكرام، لأن العقد الذي تم بين الأنصار والمهاجرين الذين قاسموهم البيت والمحل والمزرعة وكل شيء، قال عبد الرحمن بن عوف لسعد بن الربيع: (بارك الله لك في بيتك وبارك لك في مالك، أسكنه في جزء من بيته وقال له شاطرتك المال، قال له: بارك الله لك في مالك، دلني على السوق) ما هي إلا فترة وجيزة حتى ازدهر السوق بعبد الرحمن بن عوف، وازدهر عبد الرحمن بن عوف بالسوق، هذه المسألة ينبغي أن يدركها الإنسان العاقل، أقول بعد هذا لكلام: إنه واجب علينا أن نساعد إخواننا بكل ما أوتينا من إمكان وأن نخفف عنهم الأعباء المادية ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وأن نبذل لهم ما نستطيع البذل لهم، وواجب على الفعاليات الاقتصادية أن توفر فرص العمل لهم وواجب عليهم أن تكون يدهم عليا تعمل ولا تسأل، وواجب على الدولة أيضاً أن تدرس هذا الموضوع بعناية كي توفر فرص العمل لكل من شردته الأزمة ليكونوا طاقة منتجة لا ليكونوا عبئاً على مجتمعنا، مجتمعنا يبذل امكاناته في مساعدتهم والنهوض بشأنهم، والفعاليات الاقتصادية والدولة توفر لهم فرص من خلالها تصبح أيديهم منتجة معطاء لا متسولة محتاجة، هذا ما ينبغي أن يوضع بعين الاعتبار بالنسبة لأزمتنا الاقتصادية فإذا تراحمنا الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، لن ينهض بشأن الأمة شحها وأنانيتها وجمعها للمال، وإنما بذلها وعطاؤها وتراحم أبنائها، أسأل الله أن يوفق الجميع لما فيه خير دنياهم وآخرتهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد إلينا مشاعر المحبة والتراحم حتى نتجاوز المحنة التي نحن فيها ونستعيد حالة الازدهار إن شاء الله تعالى
خطبة الجمعة 28/8/2015


تشغيل

صوتي