مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 05/06/2015

خطبة د. توفيق البوطي: بين يدي رمضان


بين يدي رمضان
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله: )شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( وقول سبحانه: )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ # وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ # وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ #أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ # أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ # أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ # بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ # وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ # وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ( بقول النبي r فيما رواه مسلم: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين" وروى ابن حجر في المطالب العالية عن سلمان الفارسي قال: خطبنا رسول الله r في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس قد أظلكم شهر مبارك فيه ليلة خير من ألف شهر، فرض الله فيه صيامه، وجعل قيام ليله تطوعاً، فمن تطوع فيه بخصلة من الخير كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، فهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، وهو شهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطر فيه صائماً كان له عتق رقبة ومغفرة لذنوبه، قيل: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما نفطّر به الصائم، قال: يعطي الله هذا الثواب من فطّر صائماً على مذقة لبن أو تمر أو شربة ماء،ومن أشبع صائماً كان له مغفرة لذنوبه، وسقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص ذلك من أجره شيئاً، وهو شهرٌ أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، ومن خفف فيه عن مملوكه أعتقه الله من النار".
أيها المسلمون أيام قليلة ويحل علينا ضيف كريم عزيز يغيب أحد عشر شهراً لينزل من قلوبنا ومن حياتنا ومن سلوكنا ومن مساجدنا بأنواره، ببركاته، بهداياه، بتلك الروح اللطيفة التي تغمر القلوب في هذا الشهر، شهر رمضان المبارك، شهر القرآن شهر الصيام والقيام، شهر الرحمة والمغفرة، شهر الانتصارات والفتوح.
شهر رمضان وهل أعظم من شهر رمضان فرصة يعود فيها الناس إلى ربهم، وتستيقظ فيه القلوب وتثوب إلى رشدها وتصطلح فيه مع الله، كم من إنسان كان شهر رمضان فرصة تحوّل فيها وضعه، وتغير فيها سلوكه، واستقام بعدها أمره، وصلحت تصرفاته. وفي هذه السنة بالذات يحل فينا شهر رمضان والصيف في أشد أيام حرارته، والنهار في أطول أيامه في بلادنا، ولكن قلوباً متعطشةً لما فيه من بركات يهون معها حر الصيف، ويهون معها طول النهار وظمؤه مع لذة مناجاة الله ولذة التقرب إلى الله ولذة الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
كيف نستقبل هذا الشهر ؟ كيف نستعد لاستقباله ؟
أيها المسلمون، لو أن إنساناً أُتي بأفخر طعام وأطيب حلوى وأشهى ما يمكن أن يقدم من طعام طيب لذيذ، ولكن الإناء الذي أعده ليوضع هذا الطعام فيه كان قذراً، فما مصير هذا الطعام الشهي الفاخر اللذيذ؟ إذا كان الإناء الذي بين يديك ليوضع هذا الطعام لك فيه إناء قذراً، والإناء هنا قلوبنا، الإناء هنا سلوكنا، الإناء هنا تصرفاتنا، فمالم نطهر هذه القلوب، مالم نستغفر عن ماضٍ من تصرفاتنا، عن ماضٍ من أخطائنا طالما وقعت فيه نفوسنا من الآثام والذنوب، مالم نطهر آنية قلوبنا وصحائف أعمالنا لنستقبل هدايا هذا الشهر وفضائل هذا الشهر وبركات هذا الشهر بقلوب طاهرة نقية تحسن تلقي بركات هذا الشهر، تحسن اسقبال بركات هذا الشهر تكون مرآتها نقية تنعكس عليها أنوار هذا الشهر فتضيء حياتك، وتضيء سلوكك، وتضيء قلبك، وتضيء عقلك، وتصلح من حالك تزيدك قرباً من الله لا تزيدك بعداً عن الله. مالم نصحح ما مضى، ومالم نستدرك ما كنا قد وقعنا فيه، كيف يمكن أن نستدرك بركة هذا الشهر، أقول إن الإناء الذي ستحل به بركات هذا الشهر إنما هي قلوبنا، إنما هي أفئدتنا، فما لم ننقِ هذه القلوب من أوضارها من أوساخها من أحقادها من ذنوبها من حالة البعد عن الله التي اعترتها؛ كيف يمكن أن تستقبل مرآة قلوبنا أنوار هذا الشهر !! )كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ( الران هو ذلك الاتساخ الذي تراكم على صفحة القلب فإذا سلطت الأنوار عليه لم تجد مجالاً لانعكاسها منه ولا لتظهر تلك الأنوار فيه، لذلك أو مرحلة من مراحل حسن الاستعداد لاستقبال هذا الشهر وحسن وفادة هذا الشهر ولتلقي بركاته وأنواره وفوائده وهداياه أن نصلح فساد قلوبنا، أن نبسط الأكف إلى الله عزَّ وجل تائبين إليه راجعين إليه لذلك ربنا تبارك وتعالى جعل هذا الشهر فرصة نستعد لها ونجني ثمراتها، نستعد لها بأن نطهر قلوبنا، بأن نطهر أفئدتنا أن ننظف جوارحنا، أن ننظف بيوتنا، أن ننظف أفواهنا وآذاننا، أن ننظف أيدينا من أن تمتد إلى الحرام، وأعيننا من أن تنظر إلى الحرام وألسنتنا من أن تنطق بالحرام من غيبة أو نميمة أو شتم أو إيذاء أو غير ذلك من آفات اللسان، ونطهر آذاننا من أن تسمع اللغو، نطهر أعيننا من أن تبصر وتنظر إلى ما حرم الله عزَّ وجل مما يجعل هذه الأعين نافذة تتسخ من خلال مرئياتها قلوبنا، يجب أن نتدارك النفس، أن نتدارك نفوسنا وقلوبنا وجوارحنا فنصطلح مع الله عزَّ وجل ونتوب إليه لنكون في شهر رمضان على حالة ننال فيها بركاته وننال فيها أنواره ونجني ثمرة التقوى في نهاية المطاف من أيامه، ألم يقل الله تعالى )كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ثمرة التقوى لا يمكن أن يبلغها إنسان مصر على الخطأ الذي كان عليه ممعن متمادٍ في طريق الغواية التي كان قد سلكها، نعم قد يرى من بركات رمضان ولكنها لن تبلغ التأثير في قلبه ولن تبلغ الفعل الذي ينبغي أن تفعله من نفسه، لذلك قلما نجد آثارها في نفوس الناس بعد رمضان نتيجة عدم استعدادنا لاستقبال رمضان.
أيها المسلمون، من حسن الاستعداد لاستقبال شهر الصوم شهر رمضان المبارك أن نتعلم أحكام هذا الشهر أن نتفقه في ديننا، أمرنا الله تبارك وتعالى أن نتعلم وأن نصلح أعمالنا وإصلاح أعمالنا بتعلم أحكامها بضبط تلك الأعمال وفق شريعة الله عزَّ وجل، ولذلك فإن من الاستعداد لهذا الشهر ملازمة مجالس العلم مجالسة مجالس الفقه التي نتعلم من خلالها ما يصحح الصيام وما يفسده، وآداب الصيام وسننه، وما يمكن أن يكون من آفات تعتري الصوم فتفسد كثيراً من آثاره وبركاته وثمراته، لذلك فإن علينا أن نلازم مجالس العلم التي يوثق بها، والتي يطمأن إلى نظافتها وإلى سلامتها وإلى صحتها.


تشغيل

صوتي