مميز
EN عربي
الخطيب:
التاريخ: 06/03/2015

خطبة د. توفيق البوطي: حتى لا نكون جنوداً في الفتنة


حتى لا نكون جنوداً في الفتنة
د. محمد توفيق رمضان البوطي
أما بعد فيا أيها المسلمون يقول الله سبحانه في كتابه الكريم:) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ( ويقول جلَّ شأنه: )وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( ويقول سبحانه:)وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ( روى البخاري عن ابن عباس t أن النبي e خطب الناس يوم النحر في حجة الوداع فقال: "يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا يوم الحرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ - هم كانوا في مكة وفي يوم النحر في شهر ذي الحجة من الأشهر الحرم – قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم و أموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مراراً ثم رفع رأسه فقال اللهم هل بلغت ن اللهم هل بلغت، قال ابن عباس t: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته غلى أمته فليبلغ الشاهد الغائب، وقال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وروى مسلم عن ابن عمر t أن النبي e قال :" أيما امرئ قال لأخيه يا كافر ن فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال، وإلا رجع عليه "
أيها المسلمون: تعاني الأمة اليوم من حالة لم تصل في تاريخها إلى أتعس منها، ومن مخاطر نزلت بها لم يسبق أن نزلت بها مثلها، فمعول الهدم وسيف القتل أصبحا لغة التعامل بين التعامل بين المسلم والمسلم، ليوفروا بذلك دماء اليهود ودماء العدو، عرف العدو كيف يدفع بنا لننحر بعضنا، عرف العدو كيف يمزق هذه الأمة التي كانت منذ نشأتها ذات ألوان، ولم تكن يوماً ذات لون واحد، عاشوا مع بعضهم؛ بل عاشوا مع غيرهم، عاش المسلمون مع النصارى عاش المسلمون مع المجوس والهندوس والبوذيين، عاشوا دونما سفك دماء ودونما صراع دموي، عُومل المخالفون معاملة المواطن الذي يعيش في هذا الوطن والذي يتسع لنا ولهم، وكنائس النصارى في أماكن من دمشق وغيرها هي من قبل الإسلام ولا تزال ماثلة أمامنا تشهد بأن النصارى عاشوا في كنف الإسلام، وأن غيرهم عاشوا في كنف الدولة الإسلامية؛ بل إن المسلمين هم الذين حموا اليهود من البطش في إسبانية يوم أعمل الإسبان فيهم المجازر فهربوا إلى اليونان وحماهم المسلمون. كان الإسلام الظل الوارف لغير المسلمين فضلاً عن المسلمين، وهذا التلون بين مذاهب اعتقادية أو مذاهب فقهية هو أمر قائم في الدولة الإسلامية وفي المجتمع الإسلامي وإلى عهد قريب؛ بل إلى اليوم، يتجاورون ويتصاهرون ويتعاملون، دونما بأس ودونما إشكال، فلا يمكن أن نلزم الآخرين بما نعتقد، وإنما نتحاور فإما أن نقتنع وإما أن يبقى كلٌ على ما يعتقد، واختلفوا في مذاهبهم الفقهية فكان في ذلك ثراء المكتبة الفقهية، وكان في ذلك اتساع المكتبة الفقهية، واليوم وقد تطور الفقه ليستوعب مستجدات القضايا نجد أن ذلك الخلاف الفقهي الذي كان يوماً ما صار ملاذاً للفقهاء يعالجون به مستجدات القضايا، إذاً فالتعددية هو أمر قائم في المجتمع الإسلامي، وقائمٌ فيما بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وفيما بين المسلمين وغيرهم في الدولة الإسلامية، لم تضق الدولة الإسلامية ذرعاً بالمخالفين، بل حمتهم ودافعت عنهم ودافعوا عنها، حتى إنه عندما جاء الغزو الصليبي الإفرنجي إلى هذه البلاد أرسلوا إلى نصارى بلاد الشام: هل ستقفون مع أبناء بلادكم وأمتكم أم مع أبناء دينكم –يقصدون أنفسهم– قالوا: بل مع أبناء بلادنا، فكانوا مع المسلمين ضد الفرنجة في حرب ضروس أعمل فيها الصليبيون ورود وأزاهير سلامهم القذر بالمجازر التي انتهكوا فيها حرمة القدس الشريف، وأغرقوا القدس في أنهارٍ من الدماء تحت اسم السلام والمحبة وإنقاذ الإنسان، بهذا المنطق دخلنا العالم كله فكان العالم يرى في الإسلام اتساعاً ورحمة وحسن تعامل، فكان ذلك سبباً في دخول هذه الأمم إلى الإسلام، وهذه البلاد وغيرها لم يعرف التاريخ أن إنساناً من أبناءها دخل الإسلام عنوة، ولم يكره أحد على الدخول في الإسلام؛ بل إذا ما دخل إنسانٌ الإسلامَ عنوةً لم يعتد بإسلامه، يبقى على ما هو عليه، والفتوح الإسلامية تشهد حتى بأنهم عندما يدخلون بلد دونما دعوة وبيان؛ من حق أبناء تلك البلدة أن يطلبوا خروج هذا الجيش منها، وهذا ما جرى في بلاد أذربيجان وغيرها عندما رفعوا إلى الخليفة أن قائدك قد دخل إلينا دونما إنذار أو بيان، فأمره أن يخرج فخرج فأسلم أهل تلك البلاد، هذا ما كان في تاريخنا، إذاً فالصراع البيني أو الاثني فيما بين الأخ المسلم والأخ المسلم على اختلاف مذهبهما هو أمر ليس من عندنا، هو أمر صنع في الغرب صنع في أمريكا، صنع من قبل الأدمغة الصهيونية ليدمروا هذه البلاد وليوفروا لدويلتهم القذرة العدوانية جواً آمنا على حساب دمائنا وسلامنا وأمننا، هم حققوا بهذا الذي يجري لنا اليوم أهدافاً كثيرة، وفروا دماءهم، ووفروا أسلحتهم، وأضعفوا وأوهنوا أمتنا ومزقوها شر ممزق، مزقوا الوطن الواحد إلى أوطان ثم عمدوا إلى أبناء الوطن على اختلاف المذاهب أو الأعراق فأثاروا العربي ضد الكردي ضد التركي ضد الفارسي، أثاروا السني ضد الشيعي، أثاروا فلاناً ضد فلان وها نحن اليوم نخدم أهدافهم بأن يضرب بعضنا رقاب بعض، مخالفين بذلك أمر رسول الله e يوم قال: لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" وصف الحالة التي نحن فيها بالكفر وهنا الكفر ليس كفر اعتقاد؛ وإنما كفر نعمة (إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا( ها نحن اليوم نتنكر لتلك النعمة ونقذف بأنفسنا في أتون فتنة عمياء، خدمة لأهداف الصهيونية والأمريكية، تارة باسم الحرية، وأخرى بالصراع الشيعي السني، وتارة باسم إنشاء دولة إسلامية على أنقاض وجثث المسلمين، وكل هذا وغيره نراه بأم أعيننا اليوم تنفيذاً لمخطط إبليسي قذر، يقول لنا النبي e:" لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا " على مستوى البيت على مستوى الحي، فكيف بنا على مستوى الأمة يضرب بعضها رقاب بعض، أين نحن من: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا؟ لا.. أفسدوا، أناس يدعون الانتساب إلى العلم شيوخ فتنة، أثاروها عمياء وعواصف هائجة لتضرب الأمة بعضها بعضاً، تارة باسم الإصلاح وتارة باسم الحرية وأخرى باسم الطائفية وغير ذلك. أي فريق من الفرق أثار الفتنة فيما بينه وبين الآخرين هو إنما يخدم بذلك هدفاً صهيونياً أمريكياً ويرتكب حماقة ما مثلها حماقة، ويرتكب معصية ما مثلها معصية، سواء كان من هذا الفريق أو من ذلك الفريق، إن إثارة النعرة العرقية أو الطائفية أو العرقية أو المذهبية أو غيرها هي خدمة لأمن إسرائيل، هي خدمة للهيمنة الأمريكية على اقتصاد ومصير أمتنا هذه، هل تملك الأمة اليوم قرارها في أي مصلحة من مصالحها؟ ابحثوا، هم هناك في أقصى الغرب ومصالحهم هنا في بلادنا، مصالحهم هنا في أرضنا، ما لهم وما لنا؟! حاولوا جاهدين تشويه الإسلام وضرب المسلمين ببعضهم وإحداث فتنة طائفية مذهبية في بلادنا، بصراع بين المسلم والمسيحي، مع أن المسيحية تعيش بيننا منذ الفتح الإسلامي، هل أصبح هؤلاء أكثر حرصاً على الإسلام وأورع وأشد فهما له من أصحاب رسول الله e ورضي الله عنهم ؟ أبداً ، هم إنما ينفذون مخططاً صهيونياً لإحداث صراع بيني بين أبناء أمتنا، انتبهوا إلى هذه الملاحظة، عبد الله بن مسعود حج مع سيدنا عثمان، فصلى عثمان في مِنى الظهر أربع ركعات، أو أراد أن يصلي أربع ركعات أي لم يقصر، فقال عبد الله: لقد صليت وراء رسول الله فصلى ركعتين، وصليت خلف أبي بكر وعمر فصليا ركعتين، فما لك ولهذا؟ ولكن عثمان كان في اجتهاده أن يصلي أربعة ، فلما أحرم عثمان أحرم أبو ذر مقتدياً به، مع أنه لا يزال على وجهة نظره واجتهاده ، فقالوا: مالك تحرم معه وتصلي أربع؟ قال أجل صليت وراء رسول الله فصلى ركعتين، وصليت وراء أبي بكر فصلى ركعتين وصليت وراء عمر فصلى ركعتين، إلا أن الخلاف أشد "، ترك اجتهاده، وترك إتباع ما ذهب إليه .. لم يخالف النبي e؛ لأن المشكلة هنا مشكلة جزئية اجتهادية هل يقصر أو لا يقصر، أما أن نجعل الأمة يصطدم بعضها ببعض وتفترق الصحابة فريق يصلي خلف عثمان وفريق يصلي خلف أبي ذر فتلك فتنة رفض أن يكون معول فتنة في الأمة وآثار أن تجتمع الأمة كلها على عثمان لأن الخلاف أشد، هذا ما تركنا عليه أصحاب رسول الله e، ونحن مؤتمنون على هذا الأمر، اليوم غدا شيوخ الفتنة يصفون الفئة الفلانية بالكفر، ويصمون الفئة الفلانية بالكفر، ويتهمون فلاناً بكذا من أجل أن يسوغوا عوامل التفرقة والتمزيق. أصبحوا أدوات تخدم الهدف الصهيوني، أجل يقول سيدنا أبو ذر: إن رسول الله e خطبنا فقال: " إنه كائن بعدي سلطان، فلا تذلوه، فمن أراد أن يذله فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وليس بمقبول منه توبة حتى يسد ثلمته التي ثلم وليس بفاعل، ثم يعود فيكون فيمن يعزه" وصف إثارة الفتنة في الأمة الواحدة بأنه خلع للإسلام من ربقة العنق، هو ليس تكفير لأننا لسنا مع المكفرين، ولكن هذا الأمر يصل بصاحبه لأن يصبح أداة كفر تخدم الكفر في بلادنا، هذا ما علمنا إياه ديننا، ولم يعلمنا أن نكون معولاً يضرب بعضنا رقاب بعض، ونهدم وطننا بأيدينا، ونهدم بلادنا بأيدينا، ونحطم محطات الوقود ومحطات الكهرباء والمشافي والمساجد والجامعات بأيدينا.. خدمة لمن؟ ماذا حققوا من أهداف؟ ماذا أعطوا من نتائج؟ بماذا أرضوا ربهم بهذا العمل؟ أين يكمن الإسلام في تصرفاتهم؟ أما آن لنا أن نستيقظ؟ أما آن لنا أن نعود إلى رشدنا؟ أما آن للجميع أن يرموا السلاح ويعانقوا بعضهم ليواجهوا الخطر الداهم من حولهم؟ أما آن الأوان أن نعيد لحمة الأخوة والمحبة إلى صفوفنا؟ إنها لمسؤولية بين يدي الله عزَّ وجل وأمام التاريخ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فيا فوز المستغفرين
خطبة الجمعة 2015-03-06


تشغيل

صوتي